مسألة [
التكليف بالفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته ]
الفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته إن جهل الآمر انتفاءه ، كالواحد منا يأمر غيره بشرط بقاء المأمور على صفات التكليف فيصح بالاتفاق كما قاله
القاضي عبد الوهاب وغيره ، لانطواء الغيب عنا .
قال
الهندي : وفي كلام بعضهم إشعار بالخلاف فيه ، وإن علم انتفاءه كما إذا أمر الله بصوم رمضان ، وهو يعلم موته في رمضان ، فهل يصح
[ ص: 90 ] التكليف به ؟ قال الجمهور منهم
القاضي والغزالي : يصح ويقع ، ولذلك يعلم المكلف قبل دخول الوقت وإن لم يعلم وجود شرطه وتمكنه من الوقت ، ولولا أن تحقق الشرط في الوقت ليس شرطا في التكليف لما علم قبل وقته ، إذا الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط .
وقالت
المعتزلة : يمتنع ذلك ، لأنه تكليف بالمحال ، ولا فائدة فيه ، وقالوا : إنما يصح الشرط منا لترددنا حتى لو علم الواحد منا بوحي أو إعلام نبي ما يكون من حال مخاطبه . لا يصح أيضا تقييد الخطاب ببقاء المخاطب على صفة التكليف ، ووافقهم
إمام الحرمين . والحق : صحته ، وأنه ليس بالمحال في شيء ويجوز من القديم تعالى أن يأمر عبده بما علم أنه يكون .
وله فوائد ثلاثة :
إحداها : اعتقاد الوجوب ، ويجوز التعبد بالاعتقاد كما يجوز بالفعل . الثانية : العزم على أن يفعله إن أدركه الوقت على صفة التكليف ، ومات على ذلك فيثاب ، أو لا يعزم فيعاقب . الثالثة : جواز أن يكون فيه للمكلف مصلحة ولطف ، ويكون فيه فائدة مصححة لهذه القاعدة أيضا ، وهو شك المكلف في بقائه إلى ذلك الوقت فإنه وقت الخطاب لا يدري هل يبقى إلى وقت الفعل أو لا ؟ وينقطع هذا التكليف عنه بموته كانقطاع سائر التكاليف المتكررة .
وحاصل هذه المسألة : أن
الله إذا علم أن زيدا سيموت غدا ، فهل يصح أن يقال : إن الله أمره بالصوم غدا بشرط أن يعيش غدا أم لا ؟ فرجع
[ ص: 91 ] الخلاف إلى تحقيق الأمر بالشرط في حق الله تعالى ، فأصحابنا جوزوه ،
والمعتزلة منعوه ، وقالوا : يستحيل أن يرد الأمر مقيدا بشرط بقاء المكلف .
وزعموا : أن الشرط في أمره تعالى محال ، لأن الشرط إنما يقع حيث الشك ، والبارئ سبحانه منزه عنه ، وعند التحقيق لا شرط . فإن من علم أن الشمس طالعة لا يقول : إن كانت الشمس طلعت دخلت الدار ، وإنما يحسن ذلك من الشاك كالواحد منا ، ولهذا قالوا : لو حصل العلم للواحد منا بإخبار نبي امتنع الأمر بالشرط فيه أيضا ، ولم يقصروا خلافهم على ما إذا علم الآمر انتفاءه بل عدوه إلى ما علم وجوده أيضا ، فقالوا : إن كان الشرط مما علم الله أنه لا يكون لم يكن الأمر المعلق به أمرا به ، بل هو جار : مجرى : صم غدا إن صعدت السماء وليس هو من الأمر في شيء إلا على رأي بعض من يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإن كان قد علم أنه سيكون لم يكن الأمر مشروطا به بل هو كقوله : صل إن كانت الشمس مخلوقة ، وليس هو من المشروط في شيء ، لأن الشرط هو الذي يكون على تردد في الحصول ، ومعلوم أن التردد محال في حقه تعالى ، فلا يتصور تعليق على الشرط ألبتة لا إن علم وقوعه ، ولا إن علم عدم وقوعه .
وألزمهم
القاضي أن لا يتقيد وعده ووعيده أيضا كما لا يتقيد أمره مع أن معظم وعد القرآن ووعيده مقيد نحو قوله تعالى {
لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } قال : ولا وجه للتردد في الشرط مع علم الرب سبحانه بأنه يعلم .
وله فائدة :
وهو أن يقصد بذلك ابتلاء المكلف وامتحانه في توطين النفس على الامتثال والعزم . واحتج بعض أصحابنا بالإجماع على أن الله كلف المعدوم والعاجز بشرط أن يقدر في حال الحاجة إلى القدرة .
[ ص: 92 ]
وأجاب
أبو الحسين بأنا نقول : إن الله كلفه بشرط أن يقدر . ومعنى ذلك : أن حكمنا بأن الله تعالى قد كلفه الفعل مشروطا بأن يكون ممن يقدر ، فالشرط داخل على حكمنا لا على تكليف الله ، فإن أراد المخالف هذا رجع النزاع إلى اللفظ . وقال
الإبياري : إنما حمل
المعتزلة على ذلك أصلان :
أحدهما : أن الشرط هو الذي يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ، فأما ما تحقق ثبوتا أو نفيا فلا يصلح للشرطية .
الثاني : أن الأمر عندهم يلازم الإرادة فإن كان يعلم انتفاء الشرط لم يكن مريدا للفعل الذي علق طلبه على الشرط ، وأما نحن فلا نقول باقتران الأمر بالإرادة ، فيصح الأمر بما لم يرده . هذا تحرير المسألة بين الفريقين . وترجم بعض مختصري البرهان " وهو
ابن عطاء الله المسألة بأن شرط التكليف عند الأصحاب أن يكون الفعل من جنس الممكن فيصح أن يعلم المخاطب كونه مأمورا قبل مضي زمن يسع الفعل وعند
المعتزلة أن يكون ممكنا ، ولا يعلم كونه مأمورا إلا بعد مضي ذلك .
قال : واعتقد
الإمام أن
القاضي سلم له كون الإمكان شرطا ، فقال : يلزم إذا بان أن لا إمكان أنه لم يكن تكليف ، وليس كما اعتقده ، لأن كلام
الغزالي يقتضي ترجمتها بأن المأمور بشرطه يسمى أمرا أم لا ؟ ولهذا ذكرها في بحث الأوامر دون التكاليف .