في
السبب الداعي إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز وله فوائد : منها : التعظيم كقوله : سلام على المجلس العالي . ومنها : التحقير لذكر الحقيقة كما في قوله تعالى : {
أو جاء أحد منكم من الغائط } ومنها : المبالغة في بيان العبارة على الإيجاز كقوله تعالى : {
واشتعل الرأس شيبا } . ومنها : تفهيم المعقول في صورة المحسوس لتلطيف الكلام ، وزيادة الإيضاح ، ويسمى استعارة تخيلية كقوله تعالى : {
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } .
[ ص: 57 ] ومنها : زيادة بيان حال المذكور ، نحو رأيت أسدا ، فإنه أبلغ في الدلالة على الشجاعة لمن حكمت عليه في قولك : رأيت إنسانا كالأسد شجاعته . ومنها : تكثير الفصاحة ; لأن فهم المعنى منه يتوقف على قرينة ، وفي ذلك غموض يحوج إلى حركة الذهن ، فيحصل من الفهم شبيه لذة الكسب ، وكذلك ما يدل عليه اللفظ بالالتزام أحسن مما يدل عليه بالمطابقة لما في دلالة الالتزام تصرف الذهن . ومنها : أن لا يكون للمعنى الذي عبر عنه بالمجاز لفظ حقيقي إن قلنا : لا يستلزمه ، أو أن يجهل المتكلم أو المخاطب لفظه الحقيقي ، ومنه قول الفقهاء : إن حشيش
الحرم لا يجوز نقله ، وأرادوا الأخضر ، وإلا ففي اللغة أن الرطب يقال له : خلا ، واليابس حشيش فكأن الفقهاء آثروا تسمية الرطب حشيشا مجازا باعتبار ما يئول إليه لكونه أقرب إلى أفهام العامة ، ولجهلهم معنى الخلا ، وبهذا يغلظ من غلطهم ، أو لثقل لفظ الحقيقة على اللسان كالخنفقيق اسم للداهية ، أو تيسير التجنيس والجمع وسائر أصناف البديع . تنبيه اتفق الأدباء على أن
المجاز أبلغ من الحقيقة . قال
الجرجاني : وليس ذلك ; لأن المجاز تارة يفيد زيادة في المعنى نفسه لا تفيدها الحقيقة ، بل إنما يفيد تأكيد المعنى .
[ ص: 58 ] فليس قولنا : رأيت زيدا يفيد زيادة في مساواته الأسد عن قولنا : رأيت رجلا مساويا للأسد في الشجاعة ، بل قولنا : إن المجاز أبلغ على معنى أنه أفاد تأكيد مساواة لم تفدها الحقيقة . قالوا : والسبب فيه أن الانتقال فيه من اللزوم إلى اللازم ، فيكون إثبات المعنى به كادعاء الشيء بدليله ، ودعوى الشيء بدليله أبلغ من دعواه بلا دليل . ا هـ .
وأورد عليه أن الاستعارة أصلها التشبيه ، وأن وجه الشبه في المشبه به أتم منه في المشبه ، والاستعارة ليست كذلك بل قولنا : رأيت أسدا يفيد له شجاعة أكثر مما يفيدها قولك : رأيت رجلا كالأسد . وأجيب : بأن هذا لا يرد على مثاله ، وإنما يرد على إطلاقه أنه ليس في المجاز زيادة على الحقيقة ، ويمكن تخصيصه بالمثال . واعلم أن كلام
الأصوليين في الترجيح بين الاشتراك والمجاز يقتضي أن البلاغة تارة تكون في الحقيقة ، وتارة في المجاز وهو الحق ، فلا ينبغي إطلاق أن الحقيقة يكون لها من البلاغة ما ليس في المجاز وبالعكس ، ويكون مراد من أطلق : أن المجاز أبلغ من الحقيقة : أن مجاز اللفظ الواحد أبلغ من حقيقة ذلك اللفظ ، وأما مجاز لفظ ، وحقيقة لفظ آخر فلا ، وليس بينهما انتساب ، بل كل واحد في محله له حكم فتفطن له . وقال
أبو زكريا التبريزي في " شرح الحماسة " : أكثر كلامهم الاستعارات ، جيدها أحسن من الحقيقة ، وهو مقدم عليها في الاستحسان ، فأما في الأحكام فتقدم الحقيقة على المجاز ، فحصل في هذه المسألة ثلاثة آراء .