تنبيهات
الأول : العموم مما ذكرنا مختلف ،
فالداخل على اسم الجنس يعم الأفراد أعني كل فرد فرد ، والداخل على الجمع يعم الجموع ، لأن الألف واللام تعم أفراد ما دخلا عليه ، وقد دخلا على جمع فتفطن له . وفائدته أنه يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد ، لأنه إنما حصل النفي والنهي عن كل فرد ، ولا قرينة تنفي كل فرد ، وهذا لا يعارض ما تقدم من أن العموم من باب الكلية ، لأن كلية الجمع هي أفراد المجموع لا كل فرد من أفراد كل جمع .
وينبغي على مساق هذا التقدير أن تختلف الجموع فتشمل جموع القلة ثلاثة ثلاثة ، ولا تشمل جموع الكثرة إلا أحد عشر أحد عشر ، وهذا التقدير مشكل على استدلال العلماء بهذه الصيغ على كل فرد فرد .
[ ص: 144 ] وقد أجاب عنه
القرافي بأن
العرب وضعت التعريف الجنسي لاستغراق جميع أفراد ما دخل عليه ، سواء كان مفردا أو جمعا في إثبات أو نفي ، وهذا لا يجدي ، لأن النزاع فيه ، والخصم يقول : إنما يدل على أفراد الجموع لا على فرد فرد . وقد يقال : إن قرينة العموم الاستغراقي هنا اقتضت أن يكون لكل فرد فرد من الآحاد لا من مراتب الجموع ; لأن ذلك أقوى في دلالة العموم الكلية .
وذهب بعض أهل المعاني إلى أن استغراق اسم الجنس المفرد لما يدخل تحته أقوى من استغراق الجمع بدليل أنه لا يصدق قول القائل : لا رجل في الدار إذ كان فيها واحد أو اثنان ، ويصدق حينئذ قوله : لا رجال في الدار ، وهذا إنما جاء في جانب النفي ، أما في حالة الإثبات مع التعريف الجنسي ، فالشمول في كل واحد منهما ، لكن طريقه مختلف ، كما سبق نقله عن
إمام الحرمين ، وصرح به
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في قوله تعالى : { وكتبه } وقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الكتاب أكثر من الكتب ، وقرره
ابن المنير ، بأن المفرد يدل على أفراد جنسه كلها ، لا بصيغة لفظية ، بل بمعناه وموضوعه ، وأما في الجمع فإنه يرد أولا إلى تخيل الوحدات ، ثم يحصل الاستغراق بعد ذلك من صيغ الجمع ، فكان الأول أقوى .
الثاني : أن الأصوليين على أن الألف واللام للعموم ، وأطبق المنطقيون على أن نحو قولنا : الإنسان حيوان قضية مهملة في قوة الجزئية ، وقد تكلم
الغزالي في كتابه " معيار العلم " على وجه الجمع بينهما ، فقال : اعلم أنه إن ثبت الاستغراق من لغة
العرب ، وجب طلب المهلة من لغة أخرى ، وإن لم يثبت فهو مهمل ، إذ يحتمل الكل ، ويحتمل الجزء ، ويكون قوة المهمل قوة الجزء ; لأنه بالضرورة يشتمل عليه ، وأما العموم فمشكوك فيه ، وليس من ضرورة ما يصدق جزئيا أن لا يصدق كليا . انتهى .
[ ص: 145 ]
وحاصله أنه إن سلم الاستغراق لزم أنه ليس في لغة
العرب مهمل ، وطلب ذلك من لغة أخرى ، إذ ليس بحث المنطقيين قاصرا على لغة دون لغة ، وإن منع الاستغراق بناء على أنها كما تأتي في لغة
العرب للعموم ، تأتي للخصوص كالعهد ، فثبت أنه يراد بها العموم والخصوص باعتبارين ، فلا يكون بمعنى " كل " وتحقيقه أن لفظ الإهمال إذا أطلق فلا يفهم منه تعميم ولا تخصيص إلا بقرينة ، ولو كان يدل على العموم ، ويقابل التنوين للتنكير في الدلالة على الخصوص ، لكان قولنا : " الإنسان " لا يدل على الواحد ألبتة " وقولنا : " إنسان " لا يتناول الشياع ، وكلاهما باطل ، وأخذ الألف واللام بمعنى أنها سور هو المغلط ، فإن القضية إذا ذكرت بالألف واللام صدقت في بعض ما ، وإذا قرن به لفظ السور كذبت ، والسور الكلية إنما تدل على كلية الحكم الموضوع لا على كلية المحمول .
الثالث : أجمع النحاة بأن " أل " تأتي لتعريف الحقيقة والاستغراق ، ويلزم عليه تعريف أسماء الأجناس ، لأنهم إما أن يريدوا تعريف الحقيقة من حيث هي هي أي لو بقيد وجودها ذهنا أو خارجا ، فيلزم أن تكون أسماء الأجناس معارف كما قلنا ، واللازم باطل ، أو تعريفها من حيث وجودها في الذهن أو في الخارج ، فحينئذ هي الاستغراق فلا فرق ، وإذ قد تعذر هذا فالأولى ما قاله بعض الأصوليين : أن " أل " لتعريف العهد خاصة حيثما وردت ، فحيث يقال : هذه للحقيقة قلنا للعهد بواسطة التهكم أو غيره ، وحيث قيل : للاستغراق قلنا : للعهد لكن الصحيح خلاف هذا القول لما سبق .