[ ص: 183 ] مسألة
قد ذكرنا أن
الجمع المنكر عند الأكثرين محمول على أقل الجمع ، فيحتاج إلى تعريفه ، والخلاف في أن
أقل الجمع ماذا ؟ لا بد من تحريره ، فنقول : ليس الخلاف في معنى لفظ الجمع المركب من " الجيم والميم والعين " كما قال
إمام الحرمين ،
وإلكيا الهراسي ،
وسليم في التقريب " فإن " ج م ع " موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد ، بلا خلاف .
قال
سليم بل قد يقع على الواحد ، كما يقال : جمعت الثوب بعضه إلى بعض ، وإليه يشير كلام
الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني في كتاب " الترتيب " وأن لفظ الجمع محل وفاق ، فإنه قال : لفظ الجمع في اللغة له معنيان : الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعا والجمع الذي هو لقب ، وهو اسم لعدد وضع فوق الاثنين للاستغراق وأقله ثلاثة ، وهذا اللقب لهذا العدد كسائر الألقاب كزيد وحمار ونار .
وقال : وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب ، فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي بمعنى الفعل ، فقال : إذا كان الجمع من الضم فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما ، فوجب أن يكون جمعا ، وثبت أن الاثنين أقل الجمع . وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة ، وسائر من كان مثله من أهل العلم .
وقال : إن هذا المخالف هو
nindex.php?page=showalam&ids=15021أبو بكر القفال ، وفيه نظر ، فإن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14048أبا محمد الجويني حكى عن
nindex.php?page=showalam&ids=15022القفال الشاشي أنه قال في أصوله : أقل الجمع ثلاثة ، وضعف القول بأنه اثنان .
[ ص: 184 ]
وليس من محل الخلاف أيضا تعبير الاثنين عن أنفسهما بضمير الجمع ، نحو نحن فعلنا ، لأن
العرب لم تضع للمتكلم ضمير التثنية كما وضعت للمخاطب والغائب ، وليس للاثنين إذا عبرا عن أنفسهما بمضمر إلا الإتيان بضمير الجمع .
وذكر
إمام الحرمين أيضا أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله : {
فقد صغت قلوبكما } ، وقول القائل : ضربت رءوس الرجلين ، وقطعت بطونهما : بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كانت للسلامة أو التكسير كما قال
إلكيا ، نحو مسلمين ورجال .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور : الخلاف في
أقل الجمع الذي تقتضيه صيغة الجمع بنفسها أو بعلامة الجمع وهو ظاهر كلام
الغزالي أيضا ، فإنه جعل من صور الخلاف لفظ الناس . وفيه مذاهب . [ المذاهب في أقل الجمع ]
الأول : أن أقله اثنان ، وهو المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت ، وحكاه
عبد الوهاب عن
الأشعري وابن الماجشون ، قال
الباجي : وهو
[ ص: 185 ] قول
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر ، وحكاه هو
وابن خويز منداد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، واختاره
الباجي وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب : كان
الأشعري يختاره وينصره في المجالس .
ونقله صاحب المصادر عن القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف . قال : ولهذا ذهب إلى
انعقاد صلاة الجمعة باثنين سوى الإمام ، فجعل قوله : {
فاسعوا إلى ذكر الله } متناولا اثنين ، وأنكر ذلك
السرخسي كما سيأتي .
وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور عن
أهل الظاهر ،
وسليم عن
الأشعرية ، وبعض المحدثين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم : إنه قول جمهور
أهل الظاهر ، ثم أجاز خلافه .
وحكاه
ابن الدهان النحوي في الغرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16954محمد بن داود nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف nindex.php?page=showalam&ids=14248والخليل ونفطويه قال : وسأل
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل عن ما أحسن فقال : الاثنان جمع ، وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة ، واختاره
الغزالي ، وقد يحتج لهذا بقوله تعالى : {
قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } لأنهم طلبوا إلها مع الله ، ثم قالوا : {
كما لهم آلهة } ، فدل على أنهم إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة آلهة .
الثاني : أن أقله ثلاثة ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، وهو ظاهر نص
[ ص: 186 ] nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الرسالة ، ونقله
الروياني في البحر في كتاب العدد عن نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، قال : وهو مشهور مذهب أصحابنا ، وقال
إمام الحرمين : إنه ظاهر مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وقال
إلكيا : هو مختار
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ونقله
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وبه يأخذ ، ونقله
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب عن أكثر أصحابنا ، وقال
الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : إنه ظاهر المذهب ، ورأيت من حكى عنه اختيار الأول ، وهو سهو .
ونقله
عبد الوهاب عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، قال : وبه أجاب فيمن قال : " علي عهود الله " أنها ثلاثة ، وله علي دراهم ونحوه .
ونقله
nindex.php?page=showalam&ids=11851أبو الخطاب من الحنابلة عن نص
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، وحكاه
سليم في التقريب عن أهل
العراق وعامة
المعتزلة ، وحكاه
ابن الدهان عن جمهور النحاة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13110ابن خروف في شرح الكتاب : إنه مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه قال : وإذا كانوا لا يوقعون الجمع الكثير موضع القليل ، ولا القليل موضع الكثير إذا كان للاسم جمع قليل وكثير فأحرى أن لا يوقعوا على الاثنين لفظ الجمع ، وقال الأستاذ
أبو بكر بن طاهر الاثنان وإن كان جمعا لا يعبر عنهما بذلك ، للبس انتهى .
وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة ونسبته على أن المراد أقل الجمع للعدد .
قال : فأما الاثنان فجمعهما جمع اجتماع لا جمع عدد .
[ ص: 187 ]
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15022القفال الشاشي في أصوله : أقل الجمع ثلاثة ، ولهذا جعل
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أقل ما يعطى من الفقراء والمساكين ثلاثة ، وقال في الوصية للفقراء : إن أقلهم ثلاثة ، ولأن الأسماء دلائل على المسميات ، وقد جعلوا للمفرد والمثنى صيغة ، فلا بد وأن يكون للجمع صيغة خلافهما .
وقال
الماوردي في " الحاوي " : إن أقل الجمع ثلاثة ، أي أقل جمع ، ومن جعل أقل الجمع اثنين جعلهما أقل العموم . قال
شمس الأئمة السرخسي : ونص عليه
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد في السير الكبير " وظن بعض أصحابنا أن
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبا يوسف يقول : إن أقله اثنان على قياس مسألة الجمعة ، وليس كذلك ، فإن عنده الجمع الصحيح ثلاثة .
وإذا قلنا بهذا القول ، فهل يصح إطلاقه على اثنين على جهة المجاز أم لا يصح أصلا ؟ فيه كلام . والمشهور الجواز وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب قولا أنه لا يطلق على اثنين لا حقيقة ولا مجازا وفي ثبوته نظر نقلا وتوجيها ، ولم يصح مجازا من مجاز التعبير بالكل عن البعض .
الثالث : الوقف حكاه
الأصفهاني في شرح المحصول عن
الآمدي ، وفي ثبوته نظر ، وإنما أشعر به كلام
الآمدي ، فإنه قال في آخر المسألة : وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين ، فعلى الناظر الاجتهاد
[ ص: 188 ] في الترجيح وإلا فالوقف لازم ، هذا كلامه ، ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا .
الرابع : أن أقله واحد . هكذا حكاه بعضهم ، وأخذه من قول
إمام الحرمين : والذي أراه أن الرد إلى واحد ليس بدعا ، ولكنه أبعد من الرد إلى اثنين ، كأن ترى امرأة تبرجت لرجل فتقول : أتتبرجين للرجال ؟ وفيه نظر ، لأنه إن كان مراد
الإمام حمل ذلك بطريق المجاز كما نقله
إلكيا الطبري عنه ، فهذا لا نزاع فيه ، وليس الكلام فيه ، وقد صرح به
nindex.php?page=showalam&ids=15022القفال الشاشي أيضا في كتابه في الأصول ، فقال بعد ذكر الأدلة : وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بدليل
كالمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله تعالى : {
رب ارجعون } {
وإنا له لحافظون } وقد تقول
العرب للواحد : افعلا ، افعلوا . هذا كلامه . وهو ظاهر في أنه مجاز لاشتراطه القرينة فيه ، وكذلك قاله
إلكيا الطبري . ومثله بقوله تعالى : {
فقدرنا فنعم القادرون } .
وذكر
ابن فارس في كتاب فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ، ومثله بقوله تعالى : {
فناظرة بم يرجع المرسلون } ، وهو واحد بدليل قوله تعالى : {
فلما جاء سليمان } وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في قوله تعالى : {
كذبت قوم نوح المرسلين } ، المراد بالمرسلين
نوح نحو قولك :
[ ص: 189 ] فلان يركب الدواب ، ويلبس البرود : وظاهر كلام
الغزالي أن ذلك مجاز بالاتفاق .
قال : وقوله لامرأته : أتكلمين الرجال . ويريد رجلا واحدا ففيه استعمال لفظ الجمع بدلا عن لفظ الواحد لتعلق غرض الزوج بجنس الرجال ، لا أنه عنى بلفظ الرجل رجلا واحدا .
قلت : هذا صحيح ، لأن الرجل لم يطلق الرجال على واحد ; بل على جمع ، لظنه أنها ما تبرجت لواحد إلا وقد تبرجت لغيره ، فتبرجها لواحد سبب للإطلاق ، لا أن المراد برجال واحد .
وذكر
المازري أن
القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز . قال : لكن الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=11976أبو حامد الإسفراييني خالف فيه ، وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة محتجا بقوله تعالى : {
وإنا له لحافظون } ، وهو سبحانه وحده منزل الذكر ، فإذا ثبتت العبارة بلفظ الجمع عن الواحد لم يستنكر حمل العموم المخصص على الواحد حقيقة
قال
المازري : وهذا يجاب عنه بأن هذا نوع آخر من ألفاظ الجموع ، والواحد العظيم يخبر عن نفسه بلفظ الجمع ، وهذا منصوص لأهل اللسان في مقام التعظيم فلا يجري هذا في جانب العموم . انتهى .
وقال
الإبياري : شارح البرهان " الذي عليه الأكثرون أنه لا يصح إلى واحد ، لبطلان حقيقة الجمع ، ولهذا صار المعظم إلى أن ألفاظ العموم نصوص في أقل الجمع ، وإن اختلفوا في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة .
وما ذكره
الإمام من أنه لا حجة فيه ، وقد قال هو : إنه ليس من
[ ص: 190 ] مقتضى الجمع ، وإنما صارت رؤية الواحد سببا للتوبيخ على التبرج للجنس ، ولهذا كانت صيغة الجمع هنا أحسن من الإفراد ، وفرق بين إطلاق لفظ الجمع على الواحد ، وبين كون الواحد سببا لإطلاق لفظ الجمع على الحقيقة .
وأقول في تحرير مقالة
الإمام : إن هاهنا مقامين .
أحدهما : بالنسبة إلى الاستعمال .
والثاني : بالنسبة إلى الحمل كنظيره في مسألة المشترك في معنييه .
فالأول : أن يطلق المتكلم لفظ الجمع ويريد به الواحد ، وهذا لا منع منه بالاتفاق ، لا سيما إذا كان معظما نفسه .
والثاني : أن يورد لفظ الجمع هل يصح من السامع رده إلى الواحد ؟ وهذا موضع كلام
الإمام ، فذهب . الأكثرون كما قال
الإبياري في شرح البرهان " إلى أنه لا يصح ، لبطلان حقيقة الجمع ، ولذلك صار المعظم إلى أن ألفاظ العموم نص في أقل الجمع ، وإن اختلفوا في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة وذهب
الإمام إلى أنه يصح ، والحاصل أن صحة الإطلاق غير مسلمة الرد ، وأنه إن وجد هناك ثلاثة صح الرد إليها وفاقا ، وإن وجد اثنان انبنى على الخلاف في أنه أقل الجمع ، وإن رد إلى الواحد بطل عند الجمهور ، لأنه بانتهاء اللفظ إلى أن بطل المخصص فيما وراء ذلك ، لأن اللفظ نص في أقل الجمع ، فحمله على ما دون ذلك خروج عن حقيقة اللفظ ، وعلى هذا فلا يحسن حكاية قول في هذه المسألة بأن أقله واحد . لكن تابعت
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب على ما فيه .
[ ص: 191 ]
وقد جعل
الإمام المراتب في الرد ثلاثة ، فإنه يرى أن اللفظ نص في الزيادة على الواحد ، لا يتغير إلا بقرينة ، وهو نص في الزيادة على الاثنين ، لا ينقص عن ذلك إلا بقرينة ، ويرى أنه ليس بنص في الزيادة على الثلاثة بحال ، بل إنما يكون ظاهرا في الزيادة ، فإذا دل الدليل على إرادة الظاهر ترك ، ولم يقتصر على نوع مخصوص كسائر الظواهر .
وقال : إن الناظر في هذه المسألة في أول مرة لا يظهر له مقصوده ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لمنعه من التكميل ، فإن المقصود منها يظهر على التدريج . انتهى .
وتحرير هذا من النفائس التي لم يسبق إليها . وقد حكى أصحابنا فيما لو
وصى لأقاربه ، وليس له إلا قريب واحد ، وجهين :
أحدهما : يصرف إليه الجميع ، لأن القصد جهة القرابة . والثاني : اعتبار الجمع من ثلاثة أو اثنين . [ الخامس التفريق بين جمع الكثرة وجمع القلة ]
والخامس : ما حكاه
إلكيا الطبري عن
إمام الحرمين من التفصيل بين جمع الكثرة ، فهو ظاهر في الاستغراق ; وبين جمع القلة فهو ظاهر فيما دون العشرة ، ولا يمتنع رجوعه إلى الاثنين بقرينة ، وكذلك إلى الواحد وهو مجاز ، هذا كلامه .
وعن
ابن عربي أنه ذكر في " الفتوحات الملكية " أنه رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فسأله عن أقل الجمع : اثنان أم ثلاثة ؟ فقال عليه السلام : إن أردت أقل جمع الأزواج فاثنان ، وإن أردت أقل جمع الإفراد فثلاثة .