تنبيهات
الأول : أن
الصور في المقدرات ثلاث : أحدها : أن تتساوى ، ولا يظهر في واحد منها أنه أرجح ، فهل هو عام أو مجمل ؟ قولان : أرجحهما الثاني .
ثانيهما : أن يترجح بعضها لا بدليل من خارج ، بل لكونه أقرب إلى الحقيقة ، مثل : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30897لا صيام لمن لم يبيت الصيام } ، {
nindex.php?page=hadith&LINKID=62430ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } ، فأصحابنا يقدرون واحدا ، ثم يرجحون تقدير ما كان
[ ص: 217 ] أقرب إلى نفي الحقيقة ، وهو الجواز مثلا ، سواء كان أعم من غيره أم لا ، والخصم يقدر الكل ، ثم
إمام الحرمين يقول هنا : إن الخصم لا ينبغي له أن يقدر الكل إلا إذا لم يناف بعضها بعضا ، فإن تنافيا وارتكب تقدير الكل فقد أساء ، مثل " لا صيام " فإن تقدير الكمال ينافي تقدير الصحة ، إذ نفي الكمال منهم إثبات الصحة ، فلا يصح تقديره مع تقدير نفي الصحة معه . ووافقه على ذلك
ابن السمعاني ، فقال : لا يجوز انتفاء الفضيلة مع انتفاء الجواز : لأنه لا بد من وجود الجواز ، فيتصور انتفاء الفضيلة ، وجرى على ذلك
ابن دقيق العيد ، فإنه قال : والخلاف في هذا إنما يمكن فيما لا تنافي بين مضمونه .
وثالثها : أن يظهر واحد معين بدليل مستفاد من خارج ، فلا ينبغي لأحد أن يخالف هنا كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، بل يقدر ما ظهر ، فإن كان عاما فهو عام ، وإلا فلا ، فالعام كقوله : {
الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج ، والخاص كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31101لا هجرة بعد الفتح } أي لا تجب ، فإن الإجماع منعقد على جوازها ، وصرح
القرافي بجريان الخلاف فيما إذا تعين أحدهما بدليل ، وأنه يجوز أن يقال : إنه عام ، كما يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن الحقيقة قد تعينت .
الثاني : أن الأصوليين قالوا : إذا تعين للمقتضى أحد المضمرات ، كان كظهوره في اللفظ ، وردوا ادعاء
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي الإجمال ، فإن الذي يسبق إلى الفهم من تحريم الميتة تحريم أكلها ، ومن تحريم الأمهات تحريم وطئهن ، وإذا كان كذلك كان كالملفوظ به فلا إجمال .
[ ص: 218 ] وهذا لا يستقيم على قاعدة
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإن تحريم الميتة عنده لا يختص بالأكل ; بل يحرم ملابستها في الصلاة وبيعها وغير ذلك ، إلا ما خرج بدليل كالجلد المدبوغ ، ولم يعده للشعر ، لأن الدباغ لا يؤثر فيه ، فنجاسته ثابتة عنده ، وهذا موافق لما أشار إليه
الآمدي في قوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32422لعن الله اليهود } الحديث ، إلا أن يقرر ذلك بطريق أخرى ، وهو أن تحريم أكل الميتة ظاهر في نجاستها ، وإذا تنجست بالموت لزم من النجاسة بطلان البيع وعدم صحة الصلاة في شيء منها إلا ما طهر بالدباغ ، فهذه الأحكام ناشئة عن النجاسة المأخوذة من تحريم الأكل ، وليس في اللفظ إجمال ولا تكثير إضمار ، وهذا تقرير حسن .
ولم يسلك الإمام
فخر الدين في تفسيره هذه الطريقة ; بل قدر إنما حرم عليكم التصرف في الميتة ، ليفيد عموم التصرف ، كالأكل والبيع والملابسات كما هو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وقال : إنه المتعارف من تحريم الميتة لا تحريم أكلها . وفي هذا الكلام ضعف لا يخفى ، وهو خلاف ما قرره في المحصول كما مر ، وقوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12488إنما حرم من الميتة أكلها } دليل انصراف تحريم الميتة إلى أكلها ، ولا يلزم منه عدم تحريم الملابسة لما مر أن تحريم الأكل ظاهر في النجاسة ، وهو معنى مناسب يصلح لترتب الحكم والنجاسة عليه للمنع بما ذكره .
والحاصل أن الكلام في هذه المسألة مفروض فيما إذا لم يقم على تعيين أحد المقدرين دليل ، أما إذا اقترن باللفظ قرينة تعينه فإنه يكون كالملفوظ به ، كما في قوله تعالى : {
حرمت عليكم الميتة } {
حرمت عليكم أمهاتكم } ، فإن
[ ص: 219 ] العرف قاض بأن المراد من تحريم الميتة تحريم أكلها ، ومن تحريم الأمهات تحريم وطئهن ، بخلاف نحو {
nindex.php?page=hadith&LINKID=19568رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } ، فإنه لم يقم دليل يعين أن المراد بالمرفوع الحكم أو غيره .