[ ص: 403 ] مسألة
. الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات على الأصح وقال الحنفية : لا يقتضي ذلك ، وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة ، وهي عدم الحكم ، ونقل في " المعالم الاتفاق على الأول ، والخلاف في الثاني . واختار مذهب الحنفية " المعالم " ، وفي " تفسيره الكبير " في سورة النساء ، ووافق الجمهور في " المحصول " .
وليس كما ادعى من الوفاق ، فإن الخلاف عندهم موجود كما ذكر
القرافي . قال
الهندي : وبه صرح بعضهم ، وهو الحق ، لأن المأخذ الذي ذكروه موجود فيهما ، وهو أن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة ، وهو عدم الحكم ، وتركه على ما كان عليه قبل الاستثناء بلا فرق بين الاستثناء من النفي والإثبات إذ الواسطة حاصلة .
نعم ، يلزم النفي المستثنى من الإثبات عنده ، بناء على أنه الأصل قبل الحكم بالإثبات أن الاستثناء اقتضى ذلك ، فإن قيل : له علي عشرة إلا درهما كان معناه عنده أن الدرهم غير محكوم عليه باللزوم ، لا أنه محكوم عليه بعدم اللزوم ، وحينئذ فعدم اللزوم لازم له بناء على العدم الأصلي .
ولعل الإمام لهذا السبب خصص الخلاف بالاستثناء من النفي إذ لا يظهر للخلاف في الإثبات فائدة ، فإن النفي ثابت فيه بالاتفاق ، لكن المأخذ مختلف ، فعندنا بسبب الاستثناء ، وعنده بسبب البقاء على الحكم الأصلي . فمن هنا ظن عدم خلافه فيها ، ولهذا قيل : إن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة لا يفرق بين النفي والإثبات من جهة الدلالة الوضعية ، وإنما يفرق بينهما من جهة الحكم ،
[ ص: 404 ] وذلك أن السكوت عن إثبات الحكم ، يستلزم نفي الحكم بالبراءة الأصلية بخلاف السكوت عن النفي إذ لا مقتضى معه للإثبات ، فهو يحمل كلام أهل العربية على نفي الحكم النفسي ، وكلمة التوحيد على عرف الشارع .
قلت : والحنفية موافقون لنحاة
الكوفة ، إذ ذهبوا إلى أن قولك : قام القوم إلا زيدا ، معناه الإخبار بالقيام عن القوم الذين فيهم زيد ، وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بقيام ولا بنفي .
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة كوفي ، فلهذا كان مذهبه كذلك ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن الأداة أخرجت الاسم الثاني من الأول ، وحكمه من حكمه .
وهذا الخلاف في الاستثناء المتصل ، وبه يظهر أن الخلاف في المتصل ، لا في الأعم من المتصل والمنقطع ; بل حكى
القرافي في " العقد المنظوم " عن الحنفية أنهم أجروا ذلك في التام والمفرغ ، نحو : ما قام إلا زيد ، قالوا : زيد غير محكوم عليه بالإثبات ، والمعنى ما قام أحد إلا زيد . قال : ويلزمهم أن يعربوه بدلا لا فاعلا ، ويكون الفاعل مضمرا ، وتقديره ما قام أحد ، فلا يكون زيد فاعلا . والنحاة لا يجيزون حذف الفاعل ، نحن نقول : زيد فاعل بالفعل المنفي السابق قبل إلا ، وهو الذي نسب إليه عدم القيام ، فهو غير قائم
واحتج الجمهور بالإجماع على الاكتفاء بلا إله إلا الله في كلمة التوحيد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=2081أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله }
[ ص: 405 ] ومما يحتج به على أن الاستثناء من النفي إثبات قوله تعالى : {
فلن نزيدكم إلا عذابا } واحتج الخصم بوجهين .
أحدهما : أن الاستثناء مأخوذ من قولك ثنيت الشيء عن جهته ، إذا صرفته عنها فإذا قلت : لا عالم إلا زيد ، فهنا أمران :
أحدهما : هذا الحكم
والثاني : نفس العدم فقولك إلا زيد يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول ، وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت ; إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعدم ، فيبقى المستثنى مسكوتا عنه غير محكوم عليه نفي ولا إثبات . ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثاني ، وحينئذ يلزم تحقق الثبوت ، لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة ، لكن عود الاستثناء إلى الأول أولى ، إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية ، لا على الأعيان الخارجية ، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى
الثاني : ما جاء من وضع هذا الاستثناء من غير أن يكون للإثبات كقوله عليه الصلاة والسلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31084لا نكاح إلا بولي } ، {
nindex.php?page=hadith&LINKID=62470ولا صلاة إلا بطهور } والمراد في الكل مجرد الاشتراط . قال : والصور التي دل فيها على الإثبات ، يجوز أن لا يكون مستفادا من اللفظ ، بل بدليل منفصل ، وأجاب عن الدليل السابق بأن هذه الكلمة ، وإن كانت لا تفيد الإثبات بالوضع اللغوي ، لكنها تفيده بالوضع الشرعي ، فإن المقصود نفي الشريك .
[ ص: 406 ] وأما إثبات الإلهية فمتفق عليه
قال
الشيخ تقي الدين في " شرح الإلمام " وكل هذا عندي تشغيب ، ومراوغات جدلية ، والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة ، وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد ، وحصل الفهم لذلك منهم ، والقبول له منهم من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر ، ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي التوحيد ، لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه ، لأنه المقصود الأعظم ، والاكتفاء الذي ذكرناه عندنا في محل القطع بالظن ، لكن هل هو لمدلول اللفظ ، أو لقرائن اختصت به لا تبلغ إلى القطع ؟ واعلم أن أكثر ما يستدل به الحنفية راجع إلى الشرط ، وقد استعظم
القرافي شبهتهم من {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30832لا صلاة إلا بطهور } وليس كما زعم ، وذلك لأن الخلاف في غير الشرط ، فإن الاستثناء يقع في الأحكام ، والموانع والشروط .