صفحة جزء
[ توقف معرفة أصول الفقه على الفقه ]

واعلم أن معرفة أصول الفقه تتوقف على معرفة الفقه ، إذ يستحيل العلم بكونها أصول فقه ما لم يتصور الفقه ، لأن المضاف إلى معرفة إضافة حقيقية لا بد وأن يتعرف بها ، ولا يمكن التعريف إلا على تقدير سبق معرفة المضاف إليه ، ولأن العلم بالمركب يتوقف على العلم بمفرداته ضرورة وأما الموضوع : فشيء يبحث عن أوصافه وأحواله المعتبرة في ذلك العلم . وهو معنى قول المنطقيين : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية . أي ما يلحق الشيء لذاته ، كالتعجب اللاحق للإنسان لذاته ، لا باعتبار أمر آخر . أو لجزئه ، كالمشي اللاحق له بواسطة كونه حيوانا .

أو لأمر يساويه ، كالضحك اللاحق له بواسطة التعجب ، فهذه الثلاثة هي أعراضه الذاتية .

وقد يكون لأعم داخل فيه . كالحركة للإنسان لكنه مهجور سمي بذلك لرجوع موضوعات مسائل العلم إليه . فموضوع الفقه : أفعال [ ص: 48 ] المكلفين ، وموضوع أصول الفقه : الأدلة السمعية . وموضوع الهندسة : المقدار ، وموضوع الطب : بدن الإنسان . فإن هذه الأشياء هي مجال البحث في هذه العلوم يبحث فيها عن أعراض هذه الأشياء اللاحقة بها ، كما أنهم شبهوا ما يبحث في كل علم عن أعراضه وأحواله بمادة حسية يضعها إنسان بين يديه ليوقع فيها أثرا ما ، كالخشب الذي يؤثر فيه النجار حتى يصير سريرا ، أو بابا . وكالفضة التي يؤثر فيها الصائغ حتى يصير خاتما أو سوارا ونحوه .

وأما مبادئ كل علم فهي حدود موضوعه وأجزائه وأعراضه مع المقدمات التي تؤلف عنها قياساته . وذلك كحد البدن وأعضائه ، وما يعرض لها من صحة وسقم بالنسبة إلى علم الطب . وحد الفعل وأصنافه وأشخاصه وما يعرض له من حل وحرمة ، ونحو ذلك بالنسبة إلى علم الفقه ، وحد اللفظ ، وما يعرض من صواب وخطأ بالنسبة إلى النحو .

وهو جمع مبدأ ، ومبدأ الشيء هو محل بدايته . وسميت حدود موضوع العلم وأجزاؤه ومقدماته التي هي مادة قياساته مبادئ ، لأنه عنها ومنها ينشأ ، ويبدو .

وأما مسائل كل علم فهي مطالبه الجزئية التي يطلب إثباتها فيه كمسائل العبادات ، والمعاملات ونحوها للفقه ، ومسائل الأمر والنهي ، والعام ، والخاص ، والإجماع ، والقياس ، وغيرها لأصول الفقه .

والموضوع : قد يكون واحدا ، كالعدد للحساب ، وقد يكون كثيرا ، وشرطه أن يكون بينهما تناسب ، أي : مشاركة . إما في ذاتي ، كما إذا جعل الاسم ، والفعل ، والحرف ، موضوعات النحو ، لاشتراكها في الجنس ، وهو الكلمة . وإما في عرضي كما إذا جعل بدن الإنسان وأجزاؤه والأدوية [ ص: 49 ] والأغذية موضوعات الطب ، لاشتراكها في غاية ، وهي الصحة .

وموضوع أصول الفقه قد اجتمع فيه الأمران ، فإنه إما واحد ، وهو الدليل السمعي من جهة إنه موصل للحكم الشرعي ، وإما كثير ، وهو أقسام الأدلة السمعية من هذه الجهة ، لاشتراكها إما في جنسها ، وهو الدليل ، أو في غايتها ، وهو العلم بالأحكام الشرعية .

واختلفوا هل يجوز أن يكون للعلم أكثر من موضوع واحد أم لا ؟ فقيل ، يجوز مطلقا غير أنه لا بد أن يشركه في أمر ذاتي ، أو عرضي ، كالطب يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان ، وعن الأدوية ونحوها . وقيل : يمتنع مطلقا ، لئلا يؤدي إلى الانتشار .

واختار صاحب التوضيح " من الحنفية تفصيلا : وهو إن كان المبحوث عنه في ذلك العلم إضافيا جاز ، كما أنه يبحث في الأصول عن إثبات الأدلة للحكم ، والمنطق يبحث فيه عن إيصال تصور ، أو تصديق إلى تصور أو تصديق ، وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المتضايفين ، وبعضها عن الآخر ، فموضوع هذا العلم كلا المتضايفين . وإن كان غير إضافي لا يجوز ، لأن اختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم ، ثم إن كان إضافيا ، فقد يكون المضاف والمضاف إليه موضوع ذلك العلم ، كأصول الفقه ، وقد يكون أحدهما ، كعلم المنطق ، فإن موضوعه القول الشارح ، والدليل من حيث إنه يوصل إلى التصور والتصديق

التالي السابق


الخدمات العلمية