[ ص: 195 ] كتاب النسخ والنظر فيه بحسب اللغة والاصطلاح . أما في اللغة : فيطلق ويراد به الإبطال والإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، والريح آثار القدم . ومنه تناسخ القرون ، وعليه اقتصر العسكري . ويطلق ويراد به النقل والتحويل بعد الثبوت ، ومنه : نسخت الكتاب أي نقلته . وهو المعنى بقوله تعالى : {
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } . ومنه تناسخ الأرواح والمواريث . وسمي قوم من المبتدعة المتناسخة . لأنهم زعموا أن الأرواح تنتقل من هيكل إلى هيكل ، ومن قالب إلى قالب . ثم اختلفوا ، فذهب الأكثرون كما قاله
الهندي إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل . وعليه
nindex.php?page=showalam&ids=11844أبو الحسن البصري ،
والرازي ، ونقله
ابن برهان عن
عبد الله البصري . وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15022القفال الشاشي إلى أنه حقيقة في النقل ، وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12918أبو بكر ،
وعبد الوهاب ،
والغزالي إلى أنه مشترك بينهما لفظا لاستعماله فيهما ، وذهب
ابن المنير في " شرح البرهان " إلى أنه بالاشتراك المعنوي ، وهو التواطؤ ، لأن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب قدرا مشتركا ، وهو الرفع ، وهو
[ ص: 196 ] في نسخ الظل بين ، لأنه زال بضده . وفي نسخ الكتاب مقدر من حيث إن الكلام المنقول بالكتابة لم يكن مستفادا إلا من الأصل ، فكان للأصل بالإفادة خصوصية ، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية ، وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع . وقيل : القدر المشترك بينهما هو التغيير ، وقد صرح به
nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري ، ونبه صاحب " المعتمد " على أن نسخت الكتاب ليس من باب النقل والتحويل ، لأن المكتوب لم ينتقل على الحقيقة ، بل يشبه المنقول . ثم قيل : الخلاف لفظي . وقال
ابن برهان : بل معنوي يبنى عليه جواز النسخ بلا بدل ، فمن قال : حقيقة في الإزالة مجاز في النقل جوزه ، ومن قال : حقيقة فيهما منعه . وقال
أبو الحسين في " المعتمد " : فأما استعمال النسخ في الشرع فقال
أبو عبد الله البصري : هو منقول إلى معنى في الشرع ، ولا يجري عليه على سبيل التشبيه بالمعنى اللغوي ، لأنه يفيد في الشرع معنى مميزا يجري مجرى اسم الصلاة ، وقال الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=12187أبو هاشم : إنه يفيد معنى في الشرع على طريق التشبيه باللغة ، وذلك أنه يفيد إزالة مثل الحكم المتقدم ، كما يفيد في اللغة الإزالة ، إلا أن الشرع قصره على إزالة مثل الحكم الثابت بطريق شرعي على وجه مخصوص ، يجري مجرى قولنا : " دابة " في أنه غير منقول ، لكنه مخصوص ببعض ما يدب . ا هـ . قال
ابن الصباغ : ذهب بعض
المتكلمين إلى أنه منقول من اللغة إلى الشرع ، كما نقل اسم الصلاة ، والأظهر أنه مخصوص في الشرع برفع مثل الحكم ، وإن كان الرفع عاما كما خصصت الدابة بالاسم ، وإن كان غيرها يدب عليها .
[ ص: 197 ] وأما في الاصطلاح ، فقد اختلف في حده ، والمختار أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب . والمراد بالحكم ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فلا يرد أن القديم لا يرفع . وحاصله يرجع إلى التعلق ، وهو حادث ، وفيه نظر إذ نفسه ليس بحكم ، والمراد ارتفاع دوام الحكم بمعنى تكرره ، لا ارتفاع الحكم الذي هو الخطاب ، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه . وتقييده بالشرعي يخرج العقلي ، كالمباح الثابت بالبراءة الأصلية عند القائل به ، فإنه لو حرم فردا من تلك الأفراد لم يسم نسخا ، وقلنا . بخطاب ، ليعم وجوه الأدلة ، وليخرج الإجماع والقياس ، إذ لا يتصور النسخ فيهما ، ولا بهما ، وليخرج ارتفاعه بالموت ونحوه ، فإنه لا يسمى نسخا ، وكمن سقط رجلاه ، فإنه لا يقال : نسخ عنه غسل الرجلين . وما قاله
الإمام فخر الدين في " المحصول " من أنه نسخ ضعيف .
ومنهم من زاد قيد " التراخي " ليخرج المتصل بالحكم ، كالاستثناء والشرط ، والصفة ، لأنه بيان لغاية الحكم ، ولا يسمى نسخا ، لاستحالة أن يكون آخر الكلام قد منع أوله .
وقولنا : " رفع حكم " يغني عن هذا
[ ص: 198 ] القيد ، إذ ليس من ذلك رفع الحكم ، لأن الرفع إنما يكون بعد الثبوت ، وليس شيء منها ثبوت الحكم ، لأنها تخصيصات . وهو يبين أنه غير مراد . وقولنا : بخطاب أي بحيث لو لم يرد الثاني ، لكان حكم الأول باقيا . وما ذكرناه من
كون النسخ رفعا هو مختار
الصيرفي ،
والقاضي أبي بكر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11815والشيخ أبي إسحاق ،
والغزالي ،
والآمدي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12671وابن الحاجب ،
وابن الإبياري ، وهو المختار . وقد أنكره أكثر الفقهاء بناء على أن الحكم راجع إلى كلام الله . وهو قديم ، والقديم لا يرفع ولا يزال . وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم النسبي لا ذاته ولا تعلقه الذاتي . وقال بعض شارحي " البرهان " : الحق ما ذكره
القاضي من أنه الرفع ، ولا يلزمه ما ألزمه
الإمام من التناقض في التعلق . فإن
القاضي بنى على أصلين : أحدهما : أن الأمر يفارق الإرادة .
وثانيهما : أن الكلام القديم يتعلق بمتعلقات مختلفة على الاتحاد في نفسه ، والاختلاف راجع إلى التعلق ، فالأمر عبارة عن الطلب القائم بذات الباري سبحانه ، فقد يتعلق بالمطلوب على الدوام قطعا ، وتكون الإرادة غير ذلك ، وقد يتعلق بالمطلوب نفسه في بعض الأزمان ، ويكون هذا التعلق بيانا للإرادة والعلم ، أنه لم يرد الدوام وإنما أريد بعض الأزمنة ، ولم يتعلق العلم بالدوام ، ولا تناقض في تعلق الطلب بمتعلق واحد على صفتين في وقتين ، مطلوبا على التأبيد في الوقت ، وفي بعض الأزمان في وقت آخر لم يختلف . وإنما اختلف التعلق والزمان .
وإنما يستحيل هذا أن لو كان المخاطب يفهم في وقت واحد ،
[ ص: 199 ] ولا استحالة في وقتين ، فيرجع حاصل النسخ إلى بيان الإرادة والعلم .