مسألة في
الزيادة على النص هل تكون نسخا لحكم النسخ ؟ اعلم أن الزائد إما أن يكون مستقلا بنفسه أو لا ، الأول المستقل ، وهو إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة ، فليس بنسخ ، لما تقدمه من العبادات بالإجماع لعدم التنافي . وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس ، فليس بنسخ أيضا عند الجماهير ، وذهب بعض أهل
العراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه ، كقوله تعالى : {
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } لأنها تجعلها غير الوسطى . قال
القاضي عبد الجبار : ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة ، فإنها تجعلها غير الأخيرة ، وتغير عدها وهو خلاف الإجماع .
الثاني : الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات ، والتغريب ،
[ ص: 306 ] وصفة رقبة الكفارة من الأيمان وغيرها ، وكاشتراط النية في الوضوء مع قوله : {
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } فإن اشتراطها يكون تغييرا لما دل عليه النص من الاكتفاء بالمذكور فيه . فاختلفوا على أقوال : أحدها : أنها لا تكون نسخا مطلقا ، وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة ، وغيرهم من
المعتزلة كالجبائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12187وأبي هاشم ، وسواء اتصلت بالمزيد عليه أم لا . قال
الماوردي : وهو قول أكثر
الأشعرية ،
والمعتزلة . قال : ولا فرق بين أن تكون هذه مانعة من إجراء المزيد عليه أو غير مانعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك ،
وإلكيا : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في اليمين مع الشاهد : إنه زيادة على ما في الكتاب وليس بنسخ ، وأن ذلك كالمسح على الخفين . وقال في " المنخول " : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ليس بنسخ وإنما هي تخصيص عموم ، يعني حتى يجوز بخبر الواحد والقياس .
والثاني : أنها نسخ ، وهو قول الحنفية ، قال
شمس الأئمة السرخسي : وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم . وقال
ابن السمعاني : وأما أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة فقالوا : إن
الزيادة على النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ ، حكاه
الصيمري عن أصحابه على الإطلاق . واختاره بعض أصحابنا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك ،
وإلكيا : عزي إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أيضا ، فإنه قال في قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12449إنما الماء من الماء } : منسوخ في وجه دون وجه ، فإن هذا النص تضمن أمرين : أحدهما نصه ، وهو غير منسوخ . والثاني : أن لا غسل فيما سواه ،
[ ص: 307 ] وهو منسوخ بحديث التقاء الختانين . وإنما صار منسوخا بالزيادة على الأصل ، وحكاه
ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا . ثم قال : وهذا غلط ، لأن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12449إنما الماء من الماء } إنما دل من حيث دليل الخطاب ، فهو نسخ للمفهوم لا نسخ للنص من حيث الزيادة . انتهى .
ولا يقال : إن هذا هو المذهب الآتي القائل بالتفصيل بين ما نفاه المفهوم ، وما لم ينفه ، لأن القائل بهذا التفصيل يجعل ما نفاه المفهوم نسخا للنص ، وأصحابنا لا يجعلون ذلك نسخا للنص ألبتة ، ولا تعلق له به ، وإنما هو نسخ للمفهوم غير مستلزم نسخ النص . والكلام في هذه المسألة إنما هو فيما يجعل نسخا للنص ، ولم يقل أحد منا بذلك في نسخ مفهوم المخالفة إلا هذا الوجه الضعيف .
والثالث : إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه ، فإن تلك الزيادة نسخ ، كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25141في سائمة الغنم الزكاة } ، فإنه يفيد دليله نفي الزكاة عن المعلوفة ، فإن زيدت الزكاة في المعلوفة كان نسخا ، وإن كان ذكرها لا ينفي تلك الزيادة فوجوده لا يكون نسخا ، حكاه
ابن برهان ، وصاحب المعتمد وغيرهما .
والرابع : إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل مثلها لم يعتد به ، ويجب استئنافه ، فإنه يكون نسخا ، كزيادة على ركعتين ، وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ما يكون يفعل قبل الزيادة يصح فعله ، لم يكن نسخا كزيادة التغريب على الجلد . حكاه صاحب " المعتمد " " والقواطع " عن
عبد الجبار . وحكاه
سليم عن اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر والإستراباذي والبصري .
[ ص: 308 ]
قلت : وهو ظاهر ما رأيته في " التقريب "
nindex.php?page=showalam&ids=14958للقاضي ، فإنه ذكره واستدل له بأمور ، ثم شرط
القاضي لكونها نسخا إذا غيرت المزيد عليه أن يعلم ورودها بعد استمرار الحكم بثبوت الغرض عاريا منها ، فإن لم يعلم جاز أن يكون على وجه البيان .
وحكى
ابن برهان في " الأوسط " عن
عبد الجبار التفصيل بين أن يتصل به فهو نسخ ، كزيادة ركعة رابعة على الثلاثة ، وإن انفصلت لم يكن ، كضم التغريب إلى الجلد ، وهذا ما اختاره
الغزالي .
والخامس : إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا . وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم تكن نسخا ، فزيادة التغريب في المستقبل على الجلد نسخ ، وكذا لو زيد في حد القذف عشرون . وأما الزيادة التي لا تسقط من المزيد عليه فكوجوب ستر الفخذ ، ثم يجب ستر بعض الركبة ، فلا يكون وجوب ستر بعضها نسخا ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك عن أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وقال صاحب " المعتمد " : وبه قال شيخنا
nindex.php?page=showalam&ids=15071أبو الحسن الكرخي ،
وأبو عبد الله البصري .
والسادس : أن الزيادة إن رفعت حكما عقليا ، أو ما ثبت باعتبار الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخا ، لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام ، ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد رفعها نسخا ، وإن تضمنت رفع حكم شرعي تكون نسخا ، كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25141في سائمة الغنم الزكاة } ، فإن ظاهره يدل على الوجوب ، وفحواه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة ، فلو ورد خبر بإيجاب الزكاة في المعلوفة كان ناسخا لهذه الفحوى ، لأنه حكم شرعي .
[ ص: 309 ] حكى هذا التفصيل
ابن برهان في " الأوسط " عن أصحابنا ، وقال : إنه الحق ، واختاره
الآمدي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12671وابن الحاجب ،
والإمام فخر الدين ،
nindex.php?page=showalam&ids=13926والبيضاوي ، ونقلاه عن اختيار
أبي الحسين البصري ، يعني في " المعتمد " ، وهو قضية كلام
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر في " مختصر التقريب " ،
وإمام الحرمين في " البرهان " . وقال
الصفي الهندي : إنه أجود الطرق وأحسنها . وقال
الأصفهاني : لا يتجه على قولنا إن النسخ بيان ، وحينئذ لا يتجه
للآمدي ،
والرازي القول به .
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " عن
القاضي : إن كانت الزيادة شرطا في المزيد عليه كانت نسخا ، وإلا فلا . والذي في كتاب " التقريب " خلاف ذلك ، فإنه قرر ما سبق . نعم ، قال : فإن قيل : فيجب على هذا أن تكون زيادة شرط للعبادة لا تصح إلا بها نسخا لها ، لأنها إن فعلت مع عدمه لم تكن عبادة ، فإذا فعلت مع عدمها لم تكن صلاة . قال : وأما زيادة الترتيب والنية في الوضوء فهو من باب النقصان في حكم النص لا الزيادة ، لأن ظاهر قوله : {
فاغسلوا } الآية الإجزاء على أي وجه وقع ، فإذا وردت السنة بإيجاب النية والترتيب ، جعلت بعض ما كان مجزئا غير مجزئ ، فصار بمثابة تقييد الرقبة المطلقة في الكفارة بالأيمان بعد استقرار إطلاقها وإجزاء جميع الرقبات مؤمنة وكافرة . فإن قلت : لها حكم وإن كان نقصانا . قيل : إذا أورد بالنص كان تخصيص عموم ، وإلا فهو نسخ . انتهى .
وقال بعضهم : إن هذه التفاصيل لا حاصل لها ، وليست في محل النزاع ، فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا ، لأنه حقيقة ، وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان ، وما لا فليس
[ ص: 310 ] بنسخ . فالقائل : أنا أفصل بين ما رفع حكما شرعيا وما لم يرفع ، كأنه قال : إن كانت الزيادة نسخا فهي نسخ ، وإلا فلا . وهذا لا حاصل له ، وإنما النزاع بينهم ، هل يرفع حكما شرعيا فيكون نسخا ، أو لا ، فلا يكون ؟ فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع الاتفاق على أنها تنسخ ، أو على أنها لا ترفع ، لوقع على أنها ليست بنسخ ، ولكن النزاع في الحقيقة في أنها : هل هي رفع أو لا ؟ وهذا كما يقول فيما لو لطخ ثوب العبد بالمداد في ثبوت الخيار ، وجهان ، منشؤهما أن مثل هذا هل يصلح أن يكون تغريرا ؟ والأصح : لا ، لأن الإنسان قد يلبس ثوب غيره عارية ، فلو وقع الاتفاق على أنها تعزير ، لوقع على إثبات الخيار ، أو على عدمه لوقع على عدمه .
والظاهر أن هؤلاء لم يجعلوا مذاهبهم مغايرة للمذاهب السابقة ، بل عرضوا الأمر على حقيقة النسخ ليعتبر به ، وذكر
السماني في " الكفاية " أن الخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف السابق في أن الأمر هل يدل على الإجزاء ؟ فإن قلنا : يدل كانت نسخا ، وإلا فلا . واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعا به ، فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة لما كان عنده نسخا نفاه ، لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد ، ولما لم يكن عند الجمهور نسخا قبلوه إذ لا معارضة . وقد ردوا بذلك أخبارا صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن ، والزيادة نسخ ، ولا يجوز
نسخ القرآن بخبر الآحاد . فردوا أحاديث تعيين الفاتحة في الصلاة ، والشاهد واليمين ، وأيمان الرقبة ، واشتراط النية في الوضوء . ويلزمهم أن يجعلوا حديث المسح على الخفين ناسخا لآية الوضوء ، والحديث الوارد بالتوضؤ بالنبيذ عند عدم الماء مخالفا للقياس ، وقد رجع فيه إلى الحديث ، وخالف عادته في حديث المصراة ، وحديث القرعة
[ ص: 311 ] بين العبيد لما خالف الأصول والقياس . فتحصل من مذهبه طرح حديث لم يخالفه قياس ، واستعمال حديث جاء بخلاف القياس .
وإنما قصرنا حديث الشاهد واليمين بالأموال دون غيرها لإجماع الأمة على ذلك ، لأن معنا قائلين : أحدهما : تركه أصلا كالحنفية . والثاني : القول به في الأموال خاصة
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك . وإذا قالت الأمة في مسألة بقولين لم يجز إحداث ثالث .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب : وقد تمسك بعض الحنفية في سهم ذي القربى أنه لا يستحق إلا بالحاجة ، لأنه سهم من الخمس ، فوجب أن يستحق بالحاجة قياسا على سائر السهام . فقلت له : لا يصح هذا القياس ، لأنه زيادة في النص ، وهو قوله : {
ولذي القربى } ولا ينسخ القرآن بالقياس ، فلم يكن له جواب .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور البغدادي : ومن زاد الخلوة على الآيتين الواردتين في الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة ، وتكميل المهر بخبر
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر مع مخالفة غيره ، وامتنع من الزيادة على النص بخبر صحيح ، كان حاكما في دين الله تعالى برأيه . ونقض عليهم
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور أيضا ، فإن زيادة التغريب إن كانت نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا لآيتي الوضوء
[ ص: 312 ] والتيمم ، فهو مساو لزيادة التغريب وإنظاره بما تقدم ، وإن انفصلوا عن هذا بأن نبيذ التمر داخل في عموم الماء لقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=17384ثمرة طيبة ، وماء طهور } قيل لهم : فيكون حينئذ رافعا لإطلاق : {
فاغسلوا وجوهكم } ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه ، وتقييد مدلول النص المطلق نسخ للنص عندهم .
وقال
أبو الطيب : فائدة هذه المسألة جواز
الزيادة بالقياس ، وخبر الواحد بعدما جاز التخصيص به جازت الزيادة به . وفصل
ابن برهان في " الأوسط " ، فقال : المزيد عليه إن ثبت بخبر الواحد جاز إثبات تلك الزيادة بخبر الواحد ، وإن لم يكن الأصل مما يجوز إثباته بخبر الواحد ، فلا يجوز إثبات الزيادة به . قال :
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يعتقد أن خبر الواحد لا يقبل إذا ورد فيما تعم به البلوى ، ويعتبر للعمل به شرائط ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي لا يلتفت إلى ذلك .
تنبيه
أطلق النص في هذه المسألة ، وإنما يستمر إذا سمينا الظواهر نصوصا ، فإن قلنا : الظاهر لا يسمى نصا ، فهذه العبارة مستدركة ، لأن تغيير النصوص التي لا احتمال فيها نسخ لا محالة ، نبه عليه
المازري في غير هذا الباب .