صفحة جزء
الثامن : الفعل المجرد عما سبق ، فإن ورد بيانا ، كقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، و { خذوا عني مناسككم } ، أو لآية كالقطع من الكوع المبين لآية السرقة ، فهو دليل في حقنا ، ولا خلاف أنه واجب ، وحيث ورد بيانا لمجمل ، فحكمه حكم ذلك المجمل إن كان واجبا فواجب ، وإن كان مندوبا فمندوب ، كأفعال الحج والعمرة ، وصلاة الفرض والكسوف . وقال الأستاذ أبو منصور : وهذا على القول بجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، ومن أباه منع بيان المجمل بالفعل المتأخر عنه ، وإن لم يكن كذلك بل ورد مبتدأ ، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب وإباحة ، فما حكم الأمة فيه ؟ [ ص: 30 ] اختلفوا فيه على مذاهب ، أصحها : أن أمته مثله ، إلا أن يدل على تخصيصه به . وثانيها : كما لم تعلم صفته ، وهو قول القاضي أبي بكر ، وثالثها : مثله في العبادات دون غيرها ، وبه قال أبو علي بن خلاد من المعتزلة . ورابعها : الوقف ، قاله الرازي : وحكى ابن السمعاني عن أبي بكر الدقاق أنه لا يكون شرعا لنا إلا بدليل يدل عليه ، ثم قال ابن السمعاني : هكذا أورده الأصحاب . وعندي أن ما فعله على جهة التقرب سواء عرف أنه فعله على جهة التقرب أو لم يعرف ، فإنه شرع لنا ، إلا أن يقوم دليل على تخصيصه به .

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : هذه المسألة لم يفصح عنها المحققون ، وأنا أقول : إذا علمنا أن فعله على طريق الوجوب ، فإن علمناه واجبا عليه وعلينا فلا حاجة إلى الاستدلال بفعله على أنه واجب علينا ، بل مرجعنا إلى الدليل الدال على عدم خصوصيته ، وإن علمناه مختصا به ، فقد مر الكلام في خصائصه ، وإن شككنا فلا دليل على الوجوب إلا أدلة القائلين بالوجوب فيما لم تعلم صفته ، فلا حاجة إلى فرض هذه المسألة ، وهي أنه معلوم الصفة أولا ، وإن علمنا أنه أوقعه ندبا فهو على اختيارنا الندب في [ ص: 31 ] مجهول الصفة ، أو مباحا ، فهو الذي لم يظهر فيه قصد القربة . ا هـ ملخصا . وإن لم نعلم صفته في حقه ، فتنقسم إلى قسمين : الأول : أن يظهر فيه قصد القربة . قال إمام الحرمين في البرهان : فذهبت طوائف من المعتزلة إلى حمله على الوجوب ، وبه قال ابن سريج وابن أبي هريرة من أصحابنا ، وذهب آخرون إلى أنه لا يدل على الوجوب ، ولكن يقتضي الاستحباب . قال : وفي كلام الشافعي ما يدل عليه ، وحكاه غيره عن القفال ، وأبي حامد المروزي ، وذهب الواقفية إلى الوقف ، ونسبه الشيخ أبو إسحاق لأكثر أصحابنا ، ويحكى عن الدقاق ، واختاره القاضي أبو الطيب ، وحكاه في " اللمع " عن الصيرفي ، وأكثر المتكلمين ، ولم يحك الإمام قول الإباحة هاهنا ; لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين ، لكن ابن السمعاني حكاه حملا على أقل الأحوال ، وكذا الآمدي صرح بجريان الخلاف الآتي في الحالتين جميعا . ويمكن توجيهه بأن القصد بفعل المباح جواز الإقدام عليه ، ويثاب عليه السلام على هذا القصد ، فهو قربة في حقه بهذا الاعتبار .

الثاني : أن لا يظهر فيه قصد القربة ، بل كان مجردا مطلقا ، وهذا موضع الخلاف الآتي ، والذي يقتضيه التحقيق فيما إذا لم يعرف حكم ذلك الفعل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يكون من العبادات فهو متردد بين الوجوب والندب ، وما كان من غيرها ، وهو دنيوي كالتنزه فهو متردد بين الإباحة والندب ، وإلا كان ظاهرا في الندب ، ويحتمل الوجوب . وأما حكم ذلك الفعل بالنسبة إلينا ففيه مذاهب : أحدها : أنه واجب [ ص: 32 ] في حقنا وحقه ما لم يمنع مانع ، ونسبوه لابن سريج . قال إمام الحرمين : وهو زلل في النقل عنه ، وهو أجل قدرا من ذلك . وحكاه ابن الصباغ وغيره عن الإصطخري ، وابن خيران ، وابن أبي هريرة ، والطبري ، وأكثر متأخري أصحابنا ، كما قاله الأستاذ أبو منصور ، وقال سليم : إنه ظاهر مذهب الشافعي ، ونصره ابن السمعاني في " القواطع " ، وقال : إنه الأشبه بمذهب الشافعي . لكنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة ، واختاره أبو الحسين بن القطان ونصر أدلته .

قال : وأخذوه من قول الشافعي [ في الرد ] على أهل العراق في سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره : أجمعنا أن الأمر يختص به الظاهر ، فهو إذا انفرد بنفسه أولى أن يكون واجبا ، واختاره الإمام فخر الدين في " المعالم " . ومن هذا الباب جلوسه بين الخطبتين يوم الجمعة ، وليس فيه إلا فعله عليه السلام . ورأى الشافعي فساد الصلاة بتركه ، والقول بوجوب التأسي في حقنا هو الصحيح عن مالك . قاله القاضي أبو بكر وابن خويز منداد ، واختاره ، وقال عبد الوهاب : إنه اللائق بأصولهم . قال القرافي : وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية ، وفروع المذهب مبنية عليه . ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق ، منهم الكرخي وغيره . ثم قال القاضي : واختلف القائلون بالوجوب على طريقين ، فذهب بعضهم إلى أنا ندرك الوجوب بالعقل ، وذهب بعضهم إلى أنا ندركه بالسمع ، وهو الذي أورده ابن السمعاني . وقال إلكيا الطبري : الصحيح [ ص: 33 ] أنه لا أقيس من حيث العقل ; لأنه لا دلالة فيه ، والمخالف يسلم ذلك ، ولكنه يقول : دليل السمع دل عليه ، فيرجع النزاع إلى دليل السمع ، إذن لا متعلق لهم ، والألفاظ دلت على التأسي به ، وتهديد تارك التأسي به والاتباع له . والثاني : أنه مندوب ، وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ، ونقله القاضي وابن الصباغ ، وسليم عن الصيرفي والقفال الكبير . فأما النقل عن القفال فصحيح ، فقد رأيته في كتابه ، وعبارته لا تدل على الوجوب في حق الأمة إلا بدليل ، ولنا أسوة به ، وهو غير مخصوص به حتى يوقف على الخصوص ، وأما الصيرفي فسيأتي عنه الوقف ، ونسبه القاضي أبو بكر لأصحاب الشافعي . وقال ابن القشيري : في كلام الشافعي ما يدل عليه .

وقال الماوردي والروياني : إنه قول الأكثرين ، وأطنب أبو شامة في نصرته . والثالث : أنه مباح ، ولا يفيد إلا ارتفاع الحرج عن الأمة لا غير ، وهو الراجح عند الحنابلة . ونقله الدبوسي في " التقويم " عن أبي بكر الرازي ، وقال : إنه الصحيح ، واختاره الإمام في " البرهان " ، وأطنب في الرد على الأولين ، ونقل عن مالك . قال القرطبي : وليس معروفا عند أصحابه . قال ابن القطان : ونسبوه إلى الشافعي ; لأنه قال في كتاب المناسك ، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف : ولا أدري أفرض أو تطوع ؟ ولا أدري الفريضة تجزئ عنها أم لا ؟ إلا أن الظاهر إن صلاهما أن علينا صلاتهما ، وإنما منعنا من إيجابهما أن الله تعالى ذكر الطواف ، ولم يذكر الصلاة ، فدل على أن فعله عليه السلام غير واجب . [ ص: 34 ] قال : وذكر أيضا في الأمر قول عائشة : { فعلت أنا ورسول الله ، اغتسلنا } وقوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل } إنما أريد به الجماع ، وإن لم يكن معه إنزال ; لأنه يوجب المهر . ولم يعد إلى حديث عائشة ، بل استدل بقوله : { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وباتفاقهم على إيجاب المهر ، وإن لم يكن إنزال ، فكذلك الغسل ، فلو كان فعله عنده واجبا لكان أولى ما يحتج به صلى الله عليه وسلم . قال : والقائلون بالوجوب أولوا هذا إلى قولهم . ا هـ .

الرابع : أنه على الوقف حتى يقوم دليل على الوقف ، وبه قال جمهور أصحابنا ، منهم الصيرفي كما رأيت التصريح به في كتابه " الدلائل " ، ونقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية . قال : واختاره من أصحابنا الدقاق وأبو القاسم بن كج ، وقال ابن فورك : إنه الصحيح ، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " ، ونقله عن كثير من أصحابنا ، منهم ابن كج والدقاق والسريجي قال : وقالوا : لا ندري إنه للوجوب أو للندب أوللإباحة ; لاحتمال هذه الأمور كلها ، واحتمال أنه من خصائصه . واختاره الغزالي والإمام فخر الدين وأتباعه . ونقله الأستاذ أبو منصور عن الأشعري والصيرفي . وقال ابن القطان : هذا القول بعيد جدا عن المذهب ، إلا أنه أقيس من الذي قبله ، وصححه أبو الخطاب من الحنابلة ، وذكره عن أحمد .

قال بعضهم : وللوقف في أفعاله معنيان : أحدهما الوقف في تعدية [ ص: 35 ] حكمه إلى الأمة ، وثبوت التأسي ، وإن عرفت جهة فعله ، والثاني : الوقف في تعيين جهة فعله من وجوب أو استحباب ، وإن كان التأسي ثابتا ، وهو بهذا يئول إلى قول الندب . والخامس : أنه يدل على الحظر . قال الغزالي ، وتبعه الآمدي والهندي : وهو قول من جوز على الأنبياء المعاصي ، وهو سوء فهم . فإن هذا القائل يقول : إن غيره يحرم عليه اتباعه فيها . لا إن وقع منه يكون حراما ، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن القشيري ، فقالا : ذهب قوم إلى أنه يحرم اتباعه ، وهذا بناء على أصلهم في الأحكام قبل ورود الشرائع ، فإنهم زعموا أنها على الحظر ، ولم يجعلوا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علما في تثبيت حكم ، فبقي الحكم على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود الشرائع . تنبيهات . الأول : الظاهر أن هذا الخلاف يجري في حكم الفعل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند القائلين بأن حكمنا حكمه في الأفعال المعروفة الأحكام ، ثم رأيت ابن النفيس قال في كتابه " الإيضاح " : الذي يظهر لي أنه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أن ما يكون من العبادات فهو متردد بين الوجوب والندب ، وما كان من غيرها وهو دنيوي كالتنزه ، فهو متردد بين الإباحة والندب ، وإلا كان ظاهرا في الندب ، ويحتمل الوجوب ، وأما كونه بالنسبة إلينا ففيه أربعة أقوال ، وحكى الخلاف السابق .

التالي السابق


الخدمات العلمية