صفحة جزء
[ ص: 54 ] القسم الثالث التقرير وصورته : أن يسكت النبي ( عليه السلام ) عن إنكار قول أو فعل قيل ، أو فعل بين يديه أو في عصره ، وعلم به . فذلك منزل منزلة فعله في كونه مباحا ، إذ لا يقر على باطل . وقال الحارث المحاسبي : هو أن يراهم أو بعضهم يفعل الفعل ، أو يخبر عنهم أو بعضهم ، وذلك الفعل لا يحتمل إلا الطاعة من عمل في فرض أو عمل لا يحتمل إلا الحل أو التحريم عندهم ، لا ينهاهم عنه ، كأكلهم الضب بحضرته ونحوه ، ثم قال ابن سريج في كتاب الودائع " : هو على الندب فقط ، بخلاف القول والفعل . والمانعون من التعلق بفعله عليه السلام يسلمون أن تقريره لغيره شرع لنفي رفع الحرج من حيث تعلق التقرير بالمقرر ، فكان ذلك في حكم الخطاب [ ص: 55 ] برفع الحرج ، وهذا مما لا خلاف فيه كما قاله ابن القشيري وغيره ، وإنما اختلفوا في شيئين . أحدهما : أنه إذا دل التقرير على انتفاء الحرج ، فهل يختص بمن قرر ، أو يعم سائر المكلفين ؟ فذهب القاضي إلى الأول ; لأن التقرير ليس له صيغة تعم ، ولا يتعدى إلى غيره إلا أن ينعقد الإجماع على أن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكافة ، وذهب إمام الحرمين إلى الثاني ، وهو الأظهر ; لأنا بينا أنه في حكم الخطاب ، وقد تقرر أن خطاب الواحد خطاب للجميع ، واختاره المازري ، ونقله عن الجمهور . هذا إذا لم يكن التقرير مخصصا للعموم المتقدم ، فإن كان كذلك ، فاختلفوا فيه أيضا ، واختار الآمدي أنه إن بين لذلك الفعل معنى يقتضي جواز مخالفة ذلك الواحد للعموم ، فإنه يتعدى إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى بالقياس على ما قرر . وقال الرازي : إن ثبت أن حكمه عليه السلام في الواحد حكمه في الكل ، كان ذلك التقرير تخصيصا في حق الكل ، وإلا فلا ، واختار ابن الحاجب عند فهم المعنى قطع الإلحاق والاختصاص بمن قرر فقط ، واختار جماعة التعدي إلى الكل ، وقد صرح جمع من الأصوليين بأن الفعل إذا سبق تحريمه فيبقى تقريره نسخا لذلك الحكم ، ولولا أن التقرير يتعدى حكمه لكان تخصيصا لا نسخا ، وقد نص الشافعي على أن تقرير النبي عليه السلام للصلاة قياما خلفه وهو جالس ناسخ لأمره السابق بالقعود .

التالي السابق


الخدمات العلمية