وهو أن القاعدتين وإن اشتركتا في أنهما طلب من القلب إلا أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير قال ابن حجر في الزواجر ويكون حراما وفسوقا إن كان من حيث كونها نعمة أما إن كان من حيث كونها آلة الفساد والإيذاء كما في نعمة الفاجر فلا حرمة ا هـ قال الأصل كان المتمني زوالها عنه تمنى حصولها لنفسه أو لا فالحسد نوعان ، والثاني أشرهما ؛ لأنه طلب المفسدة الصرفة من غير معارض عادي أو طبيعي قال : ودليل تحريم الحسد الكتاب والسنة والإجماع ( فأما الكتاب ) فقوله - تعالى - : { ومن شر حاسد إذا حسد } وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } ، وقوله تعالى - : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } أي لا تتمنوا زواله بقرينة النهي ( وأما السنة ) فقوله : عليه الصلاة والسلام لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وفي الزواجر قال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة رواه الشيخان ا هـ قال الأصل : وأما الإجماع على تحريمه فقد انعقد من الأمة المعصومة قال : ويقال : إن الحسد أول معصية عصي الله بها في الأرض حسد إبليس آدم فلم يسجد له . ا هـ .
والمباحة تكون في النعم المباحة كالنكاح ، والمنافسة في المباحات لا يترتب عليها إثم لكنها تنقص من الفضائل ، وتناقض الزهد والرضا بالمقضي والتوكل ، وتحجب عن المقامات الرفيعة نعم هنا دقيقة ينبغي التنبيه لها ، وإلا وقع الإنسان في الحسد الحرام من غير أن يشعر ، وهي أن من أيس أن ينال مثل نعمة الغير فبالضرورة أن نفسه تعتقد أنه ناقص عن صاحب تلك النعمة وأنها تحب زوال نقصها ، وزواله لا يحصل إلا بمساواة ذي النعمة أو بزوالها عنه ، وقد فرض يأسه عن مساواته فيها فلم يبق إلا محبته لزوالها عن الغير المتميز بها عنه ؛ إذ بزوالها يزول تخلفه .
وتقدم غيره بها ، فإن كان بحيث لو قدر على زوالها عن الغير أزالها فهو حسود حسدا مذموما ، وإن كان عنده من التقوى ما يمنعه عن إزالتها مع قدرته عليها ، وعن محبة زوالها عن الغير فلا إثم عليه ؛ لأن هذا أمر جبلي لا تنفك النفس عنه ، ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم { كل ابن آدم حسود } وفي رواية { ثلاثة لا ينفك المسلم عنهن الحسد والظن والطيرة ، وله منهن مخرج إذا حسدت فلا تبغ } أي إن وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به ، ويبعد ممن يريد مساواة غيره في النعمة فيعجز عنها سيما إن كان من أقرانه أن ينفك عن الميل إلى زوالها فهذا الحد من المنافسة يشبه الحسد الحرام فينبغي الاحتياط التام فإنه متى صفى إلى محبة نفسه ومال لاختياره إلى مساواته لذي النعمة بمحبة زوالها عنه فهو مرتبك في الحسد [ ص: 245 ] الحرام .
ولا يتخلص منه إلا إن قوي إيمانه ورسخ قدمه في التقوى ، ومهما حركه خوف نقصه عن غيره جره إلى الحسد المحظور ، وإلى ميل الطبع إلى زوال نعمة الغير حتى ينزل لمساواته ، وهذا لا رخصة فيه بوجه سواء أكان في مقاصد الدين أم الدنيا قال الغزالي : ولكن ذلك يعفى عنه ما لم يعمل به إن شاء الله - تعالى ، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له ا هـ والله - سبحانه وتعالى - أعلم .