( الفرق الثاني والعشرون بين قاعدة حقوق الله تعالى وقاعدة حقوق الآدميين ) فحق الله أمره ونهيه وحق العبد مصالحه والتكاليف على ثلاثة أقسام حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر وحق العباد فقط كالديون والأثمان وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله أو حق .
[ ص: 141 ] العبد كحد القذف ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد وكل ما ليس له إسقاطه فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى وقد يوجد حق الله تعالى وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات فإن الله تعالى إنما حرمها صونا لمال العبد عليه وصونا له عن الضياع بعقود الغرر والجهل فلا يحصل المعقود عليه أو يحصل دنيا ونزرا حقيرا فيضيع المال فحجر الرب تعالى برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يؤثر رضاه وكذلك حجر الرب تعالى على العبد في إلقاء ماله في البحر وتضييعه من غير مصلحة .
ولو رضي العبد بذلك لم يعتبر رضاه وكذلك تحريمه تعالى على المسكرات صونا لمصلحة عقل العبد عليه وحرم السرقة صونا لماله والزنا صونا لنسبه والقذف صونا لعرضه والقتل والجرح صونا لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى لأنها تسقط بالإسقاط وهي مشتملة على حقوق العباد لما فيها من مصالحهم ودرء مفاسدهم وأكثر الشريعة من هذا النوع كالرضا بولاية الفسقة وشهادة الأراذل ونحوها [ ص: 142 ] فتأمل ذلك بما ذكرته لك من النظائر تجده فحجر الرب تعالى على العبد في هذه المواطن لطفا به ورحمة له سبحانه وتعالى .
( تنبيه ) : ما تقدم من أن حق الله تعالى أمره ونهيه مشكل بما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=87186حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا } فيقتضي أن حق الله تعالى على العباد نفس الفعل لا الأمر به وهو خلاف ما نقلته قبل هذا والظاهر أن الحديث مؤول وأنه من باب إطلاق الأمر على متعلقه الذي هو الفعل وبالجملة فظاهره معارض لما حرره العلماء من حق الله تعالى ولا يفهم من قولنا الصلاة حق الله تعالى إلا أمره بها إذ لو فرضنا أنه غير مأمور بها لم يصدق أنها حق الله تعالى فنجزم بأن الحق هو نفس الأمر لا الفعل وما وقع من ذلك مؤول .
قال : ( وحق العبد مصالحه ) قلت : إن أراد حقه على الله تعالى فإنما ذلك ملزوم عبادته إياه وهو أن يدخله الجنة ويخلصه من النار وإن أراد حقه على الجملة أي الأمر الذي يستقيم به في أولاه وأخراه فمصالحه .
قال : ( والتكاليف على ثلاثة أقسام حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر ) قلت : قد تقدم أن حق الله تعالى على العبد عبادته إياه فإن أراد ذلك فصحيح وإلا فلا .
قال : ( وحق العباد فقط كالديون والأثمان ) قلت : تمثيله هذا يشعر بأنه يريد حقوقهم بعضهم على بعض وقوله قبل حقه مصالحه يشعر بأنه يريد حقوقهم على الجملة .
قال : ( وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق . [ ص: 141 ] العبد كحد القذف ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه إلى قوله فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى ) قلت : بعد أن قرر قبل أن حق العبد مصالحه على الإطلاق قصر كلامه على بعض ما يتناوله ذلك الإطلاق من التفاصيل وهو حق بعض العباد على بعض وترك الكلام على غير ذلك من مصالح العباد فلم يكن كلامه منتظما كما يجب .
قال : ( وقد يوجد حق الله تعالى وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه تعالى لعقود الربا إلى قوله وتضييعه من غير مصلحة ولو رضي العبد بذلك لم يعتبر رضاه ) قلت : ما قاله في ذلك صحيح .
قال : ( وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صونا لمصلحة عقل العبد عليه وحرم السرقة صونا لماله والزنى صونا لنسبه والقذف صونا لعرضه والقتل والجرح صونا لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه ) قلت : أما في القتل والجرح فرضاه معتبر وإسقاطه نافذ .
قال : ( فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى لأنها لا تسقط بالإسقاط وهي مشتملة على حقوق العباد لما فيها من مصالحهم إلى قوله . [ ص: 142 ] لطفا به ورحمة له سبحانه وتعالى ) قلت : قد سبق أن من تلك الأمور التي ذكر ما يسقط بالإسقاط وهو القتل والجرح .
قال : ( تنبيه ما تقدم أن حق الله تعالى أمره ونهيه يشكل بما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=87187حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا } فيقتضي أن حق الله تعالى على العباد نفس الفعل لا الأمر به وهو خلاف ما تقدم فالظاهر أن الحديث مؤول وأنه من باب إطلاق الأمر على متعلقه الذي هو الفعل وبالجملة فظاهره معارض لما حرره العلماء من حق الله تعالى ولا يفهم من قولنا الصلاة حق الله تعالى إلا أمره بها إذ لو فرضنا أنه غير مأمور بها لم يصدق أنه حق الله تعالى فنجزم بأن الحق هو نفس الأمر لا الفعل وما وقع من ذلك مؤول ) قلت : جميع ما قاله هنا غير صحيح وهو نقيض الحق وخلاف الصواب بل الحق والصواب ما اقتضاه ظاهر الحديث من أن الحق هو عين العبادة لا الأمر المتعلق بها ومن أعجب الأمور قوله فظاهره معارض لما حرره العلماء من حق الله تعالى وكيف يحرر العلماء ما يخالف قول الصادق المصدق ويا ليت شعري من هؤلاء العلماء .
وكيف يصح القول بأن حق الله تعالى هو أمره ونهيه والحق معناه اللازم له على عباده واللازم على العبد لا بد أن يكون مكتسبا لهم وكيف يصح أن يتعلق الكسب بأمره وهو كلامه وهو صفته القديمة وهذا كله كلام من ليس من التحصيل بسبيل والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
حاشية ابن حسين المكي المالكي
[ ص: 157 ] الفرق الثاني والعشرين بين قاعدة حقوق الله تعالى وقاعدة حقوق الآدميين ) وذلك أن حق الله تعالى هو متعلق أمره ونهيه الذي هو عين عبادته لا نفس أمره ونهيه المتعلق بها الأمرين الأول قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=87187حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا } الثاني أن الحق معناه اللازم له على عباده واللازم على العباد لا بد أن يكون مكتسبا لهم وكيف يصح أن يتعلق الكسب بأمره ونهيه وهو كلامه وكلامه صفته القديمة وحق العبد ثلاثة أقسام : الأول حق على الله وهو ملزوم عبادته إياه وهو أن يدخله الجنة ويخلصه من النار والثاني حقه في الجملة وهو الأمر الذي يستقيم به في أولاه وأخراه من مصالحه والثالث حقه على غيره من العباد وهو ماله عليهم من الذمم والمظالم وتنقسم التكاليف باعتبار حق الله والقسمين الأخيرين من أقسام حق العبد إلى أربعة أقسام : القسم الأول تكليف بحق الله تعالى المحض فلا يتأتى إسقاطه أصلا كالإيمان وترك الكفر والقسم الثاني تكليف بحق العباد المحض بعضهم على بعض أي أمره تعالى بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه فالمراد بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط كالديون والأثمان وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بالإيصال المذكور فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى والقسم الثالث تكليف بالحقين المذكورين معا ففي التغليب فيه لحق الله تعالى على العبد فلا يسقط أو لحق العبد على العبد فيسقط خلاف كحد القذف شرعه الله صونا لعرض العبد وحد القتل والجرح شرعه الله تعالى صونا لمهجة العبد وأعضائه ومنافعها عليه .
والقسم الرابع تكليف بحق الله تعالى على العبد وحق العبد في الجملة مما يستقيم به في أولاه وأخراه من مصالحه فلا يتأتى فيه للعبد إسقاط ولو لحقه لأن الله تعالى قد حجر فيه على العبد حتى في حق نفسه لطفا به ورحمة له وأكثر الشريعة من هذا القسم فمن ذلك أنه تعالى حجر برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته فحرم عليه عقود الربا صونا لماله عليه وعقود الغرر والجهالات صونا لماله عن الضياع فلا يحصل المعقود عليه أو [ ص: 158 ] يحصل دنيا ونزرا حقيرا فيضيع المال وحرم عليه إلقاء ماله في البحر وتضييعه في غير مصلحة وحرم السرقة صونا لماله أيضا ومن ذلك أنه تعالى حجر على عبده في تضييع عقله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته فحرم عليه المسكرات صونا لمصلحة عقل العبد عليه ومن ذلك أنه تعالى حجر على عبده تضييع نسبه الذي به عونه على أمر دنياه وآخرته فحرم عليه الزنا صونا لنسبه فلا يؤثر رضا العبد بإسقاطه حقه في ذلك كله كما لا يؤثر رضاه بولاية الفسقة وشهادة الأراذل ونحوها فافهم .