( الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة )
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو صلى الله عليه وسلم [ ص: 206 ] إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به صلى الله عليه وسلم ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث ويتحقق ذلك بأربع مسائل [ ص: 207 ] ( المسألة الأولى )
قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=35355من أحيا أرضا ميتة فهي له } اختلف العلماء رضي الله عنهم في هذا القول هل تصرف بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يحيي إذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي رضي الله عنهما أو هو تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله وأما تفرقة nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بين ما قرب من العمارة فلا يحيا إلا بإذن الإمام وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه فليس من هذا الذي نحن فيه بل من قاعدة أخرى [ ص: 208 ] وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعا لذلك المتوقع كما تقدم وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك فيجوز ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في الإحياء أرجح لأن الغالب في تصرفه صلى الله عليه وسلم الفتيا والتبليغ والقاعدة أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى . ( المسألة الثالثة )
[ ص: 201 - 205 ] قال ( الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه عليه الصلاة والسلام بالإمامة إلى قوله [ ص: 206 ] ونحقق ذلك بأربع مسائل ) قلت لم يجود التعريف بهذه المسائل ولا أوضحها كل الإيضاح والقول الذي يوضحها هو أن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة وإلا فهو المفتي وتصرفه هو الفتوى وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء وإما أن لا يكون كذلك فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام وتصرفه هو [ ص: 207 ] الإمامة وإن كان كذلك فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء قال ( المسألة الأولى ) قلت التقسيم الذي ذكرته قد أتى على ما ذكره فيها مع أن ما ذكره يعطي ذلك المعنى لكن ما ذكرته من التقسيم أمس بالتحرير وأقرب إلى الإيضاح . قال ( المسألة الثانية إلى آخرها ) قلت ما قاله فيها ظاهر وما رجح به مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي راجح والله تعالى أعلم وما قاله بعد إلى آخر الفرق صحيح ظاهر والله أعلم .
حاشية ابن حسين المكي المالكي
( الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة ) لما كان سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خير المرسلين وإمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء وقد فوض الله تعالى إليه في رسالته جميع المناصب الدينية كان صلى الله تعالى عليه وسلم أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة نعم غالب تصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم إن تصرفاته صلى الله تعالى عليه وسلم منها ما يجمع الناس على أنه بالتبليغ والفتوى ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف الناس فيه لتردده بين رتبتين فأكثر فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى وتحرير الفرق بين هذه القواعد الثلاث وبينها وبين الرسالة هو أن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه فإن كان تصرفه فيه بتعرفه فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة وإلا فهو المفتي وتصرفه هو الفتوى وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفضل قضاء وإبرام وإمضاء فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء وإما أن لا يكون تنفيذه بفصل قضاء وإبرام وإمضاء فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة
( فائدة ) الرسول يجب عليه أن يطلب الجاهل ليعلمه بخلاف العالم فلا يجب عليه ذلك بل الواجب على الجاهل أن يطلب العالم ليعلمه كما قال النووي لأن الأحكام يقررها الرسول على الناس فليبحثوا بعد عمن يعلمهم نعم يجب على العالم الإجابة بعد الطلب وكل هذا ما لم يشاهد منكرا من الجاهل فيجب حينئذ المبادرة للتعليم والتغيير حسب الإمكان أفاده الأمير علي عبد السلام علي nindex.php?page=showalam&ids=14042الجوهري
( وصل ) في زيادة توضيح هذا الفرق بأربع مسائل المسألة الأولى كل ما تصرف فيه عليه الصلاة والسلام بوصف الإمامة الذي هو التنفيذ لا على وجه فصل القضاء والإبرام والإمضاء كبعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود للكفار ذمة وصلحا لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه الصلاة والسلام ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون وصف التبليغ الذي هو التعريف يقتضي ذلك وكل ما تصرف فيه عليه الصلاة والسلام بوصف القضاء الذي هو التنفيذ على وجه القضاء والإبرام والإمضاء كفصله صلى الله تعالى عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال وأحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به صلى الله تعالى عليه وسلم ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه [ ص: 207 ] صلى الله تعالى عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك وكل ما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ والفتوى الذي هو التعريف لا على وجه كونه المبلغ عن الله تعالى كتصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه يكون حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة .
فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه وهذه المواطن لا خفاء فيها وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل المسألة الثانية اختلف العلماء رضي الله تعالى عنهم في كون قوله صلى الله تعالى عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=35355من أحيا أرضا ميتة فهي له } تصرفا بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يحيي إذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي رضي الله تعالى عنهما وهو الراجح لأن الغالب في تصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم الفتيا والتبليغ والقاعدة أن إضافة الدائر بين الغالب والنادر إلى الغالب أولى أو كونه تصرفا منه عليه الصلاة والسلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس ما نحن فيه تفرقة nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بين ما قرب من العمارة فلا يحيا إلا بإذن الإمام وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه بل هو من قاعدة أخرى وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعا لذلك المتوقع كما تقدم وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك فيجوز المسألة الثالثة اختلف العلماء في كون { nindex.php?page=hadith&LINKID=87215قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان لما قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم إن nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني . ما نصه : خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف } تصرفا بطريق الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به .
وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أو كونه تصرفا بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض وهو مشهور مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وحجته أنها دعوى في مال على معين فلا يدخله إلا القضاء لأن الفتاوى شأنها العموم وحجة nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ما روي أن nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان كان بالمدينة والقضاء على الحاضرين من غير إعلام ولا سماع حجة لا يجوز فيتعين أنه فتوى وهذا هو ظاهر الحديث كذا قال الأصل وفي جعله عدم جواز أخذ أحد حقه أو جنسه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض هو مشهور مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وإن وافق ظاهر قول خليل في باب الوديعة وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها ا هـ مخالفة لقول خليل في باب الشهادة بعد هذا وإن قدر على شيئه فله أخذه إن يكن غير عقوبة وأمن فتنة ورذيلة ا هـ قال المواق وحاصل كلام اللخمي وابن يونس nindex.php?page=showalam&ids=13170وابن رشد والمازري ترجيح الأخذ ا هـ .
وفي منح الجليل ما حاصله أن عبق والخرشي قررا أن مراد خليل بشيئه ما يشمل عينه أو غير عينه ولو من غير جنسه على ظاهر المذهب قاله ابن عرفة ويدل له قول خليل أن يكون غير عقوبة لأنها لا يمكن أخذ عينها فلو أراد خليل بشيئه عينه خاصة لم يحتج لقوله إن يكن غير عقوبة لعدم شمول عين شيئه لها فيحمل شيؤه على حقه الشامل لعين شيئه وعوضه فيحتاج إلى إخراج العقوبة وشمل كلامه الوديعة وهو [ ص: 208 ] المعتمد وما قدمه في بابها من قوله وليس له الأخذ إلخ ضعيف ا هـ قال البناني وسلمه الرهوني وكون ما قرر به عبق هو الظاهر وما قاله طفى وصوبه من حمل ما هنا على عين شيئه إذ هو المتفق عليه وأما غير عين شيئه ففيه أقوال مشى فيه خليل منها فيما تقدم في الوديعة على المنع فغير ظاهر لأن أظهر الأقوال عند ابن عرفة الإباحة ا هـ ونقل كنون عن التوضيح باختصار أن الدعوى إنما يحتاج إليها من لا يقدر على أخذ متاعه وإلا جاز له أخذه أي بشرطيه من غير رفع إلى الحاكم لأن المقصود من الرفع إنما هو الوصول إلى الحق فإذا أمكن بدونه فالرفع إليه عناء وربما لم يجد الرافع بينة فيؤدي إلى ضياع ماله وهو ضد ما أمر به من حفظه ا هـ قال ونحوه لابن عبد السلام ا هـ ولله در الشيخ محمد العاقب بن ما يأبى رحمه الله تعالى حيث قال
إذا وجد المظلوم بالمطل قدرة على أخذ حق لازم لمطول فأخذ جميع الحق أو ما ينوبه مع الغير ما عن محله من عدول بذا صرح الزرقاني قدس سره وسلمه البناني حبر النقول ومن يدعه باسم الفضولي بعدما أبيح له ذا الأخذ فهو الفضولي
المسألة الرابعة اختلف العلماء في كون قوله صلى الله تعالى عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=37018من قتل قتيلا فله سلبه } تصرفا بالفتوى عملا بالغالب من تصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم فيستحل كل أحد سلب المقتول ولو لم يقل الإمام ذلك أو كونه تصرفا بالإمامة فلا يستحل أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك وإليه ذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله تعالى وإن خالف أصله الذي قاله في الإحياء وهو أن غالب تصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم بالفتوى نظرا لأمور منها أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين لقوله عز وجل { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } وإخراج السلب من ذلك خلاف هذا الظاهر ومنها أن ذلك ربما أفسد الإخلاص عند المجاهدين فيقاتلون لهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام ومنها أنه يؤدي إلى أن يقبل على قتل من له سلب دون غيره فيقع التخاذل في الجيش وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين فلأجل هذه الأسباب ترك nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله تعالى هذا الأصل هنا ، فتأمل هذا القانون وهذه الفروق لتخرج عليه ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من الأصول الشرعية والله أعلم .