وهذا مشكل جدا فكيف يخير بين سبب الهداية وسبب الضلالة والجواب أن هذا من باب العاقبة لا من باب العقاب والممتنع هو الثاني دون الأول وبسطه أن العقاب يرجع إلى منع من الكلام النفساني فهو تحريم لا يجتمع مع الإباحة ؛ لأنه ضدها والعاقبة ترجع إلى أثر قدرة الله تعالى وقدره في الحوادث لا بخطابه وكلامه فلا مضادة بينهما وإنما يضاد الإذن من الكلام المنع من الكلام حتى يصير افعل لا تفعل ، أما أثر القدرة والقدر فلا يضاد الإذن بدليل أن الأمة مجمعة على أن الإنسان يخير بين سكنى هاتين الدارين مثلا أو تزوج إحدى هاتين المرأتين أو شراء إحدى هاتين الفرسين فإذا اختار أحدهما بمقتضى الإذن الشرعي الناشئ من الكلام النفساني أمكن أن يخبره المخبر عن الله تعالى أنك لو اخترت ما تركت من الدارين والمرأتين والفرسين لكان ذلك سبب ضلالك وهلاك مالك وذريتك وغير ذلك من سوء العاقبة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=87224إنما الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس } وقال بحمله على ظاهره جماعة من العلماء وكما جاء في الحديث الآخر أنه لما { nindex.php?page=hadith&LINKID=87225قيل له عليه السلام عن دار يا رسول الله سكناها والعدد وافر والمال كثير فذهب العدد والمال فقال عليه السلام دعوها ذميمة } ولو لم ترد هذه الأحاديث فإنا نجوز أن يفعل الله تعالى ذلك [ ص: 13 ] في بعض الأشياء التي نلابسها ويجعل عاقبتها رديئة ومع ذلك لا ينافي ذلك التخيير الثابت بمقتضى الشرع الكائن في جميع هذه الصور وكذلك التخيير الواقع بين القدحين ليلة الإسراء وهو محقق ولم يكن شيء من ذلك محرما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مأذون بإقدامه عليهما ولو أقدم على ذلك القدح من الخمر لم يكن إثما ولا عقاب فيه نعم فيه سوء العاقبة وقد تقدم أنها ترجع إلى أثر القدرة والقدر وما يخلقه الله تعالى في الحوادث من الضر والنفع لا للمنع النفسي المناقض للتخيير فظهر الفرق بين التخيير مع سوء العاقبة واتضح معنى الحديث الذي استشكله جماعة كثيرة من الفضلاء وأنه لموضع إشكال لولا هذا الفرق والله أعلم .
( الفرق الخمسون بين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه وبين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عاقبته لا من عقابه ) حيث قالوا : يتعذر وقوع الأول وأنه لا يمكن أن يخير الله تعالى بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه إذ لا يجتمع العقاب على فعل المكلف أحد الأمور بعينه مع تخييره في فعل ما يختاره منها أبدا ، وقالوا : يمكن وقوع الثاني بل قد { nindex.php?page=hadith&LINKID=87226وقع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فجاءه جبريل عليه السلام بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر فخيره بين شرب أيهما شاء فاختار اللبن فقال له جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك } وقد استشكل هذا الحديث جماعة كثيرة من الفضلاء بأن شرب هذا القدح من الخمر سبب ضلال الأمة كما قال جبريل عليه السلام والسبب للضلال حرام فيكون حراما فكيف يقع التخيير له عليه الصلاة والسلام بينه وهو حرام [ ص: 14 ] وسبب الضلالة وبين اللبن الذي هو الفطرة المطلوبة الوجود وسبب الهداية وسر الفرق بين هاتين القاعدتين الذي يتضح به معنى الحديث المذكور ويندفع عنه الإشكال المذكور هو أن العقاب لما كان يرجع إلى المنع الناشئ عن الكلام النفساني كان تحريما لا يجتمع مع الإباحة التي هي عبارة عن الإذن الشرعي الناشئ عن الكلام النفساني ؛ لأنه ضدها وأن العاقبة لما كانت ترجع إلى أثر قدره الله تعالى وقدره في الحوادث لا بخطابه وكلامه لم تكن بينها وبين الإذن الشرعي الناشئ عن الكلام مضادة بدليل أن الأمة مجمعة على أن الإنسان يخير بين سكنى هاتين الدارين أو تزويج إحدى هاتين المرأتين أو شراء إحدى هاتين الفرسين فإذا اختار أحدهما بمقتضى أن الشرعي الناشئ عن الكلام النفساني أمكن أن يخبر المخبر عن الله تعالى أنك لو اخترت ما تركت من الدارين والمرأتين والفرسين لكان ذلك سبب ضلالك وهلاك مالك وذريتك وغير ذلك من سوء العاقبة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=87224إنما الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس } .