اشتهر بين النظار والفضلاء في العقليات والفقهيات أن الأعم لا يستلزم أحد أنواعه عينا وإنما يستلزم الأعم مطلق الأخص لا أخص معينا وإنما يستلزم مطلق الأخص لضرورة وقوعه في الوجود فإن دخول الحقائق الكلية في الوجود مجردة محال فلا بد لها من شخص تدخل فيه ومعه فلذلك صار اللفظ الدال على وقوعها في الوجود يدل بطريق الالتزام على مطلق الأخص وهو أخص ما لا أخص معينا وهذا هو القول المطرد بين الفقهاء والنظار لا يكاد يختلف منهم في ذلك اثنان وليس الأمر كذلك بل الأمر في ذلك مختلف وهما قاعدتان مختلفتان وتحرير ضبطهما والفرق بينهما أن الحقيقة العامة تارة في رتب مترتبة بالأقل والأكثر والجزء والكل وتارة تقع في رتب متباينة فمثال الأول مطلق الفعل الأعم من المرة الواحدة والمرات فالمرة رتبة دنيا والمرات رتبة عليا [ ص: 14 ] لأنها فوق المرة ومع ذلك فلا بد في دخول الفعل في الوجود من المرة الواحدة عينا ؛ لأنه إن وقع في المرات وقعت المرة وإن وقع مرة واحدة وقعت المرة الواحدة فالمرة الواحدة لازمة لدخول ماهية الفعل بالضرورة والماهية العامة الكلية مستلزمة لهذا النوع الأخص عينا بالضرورة وكذلك إخراج مطلق المال يدل بالالتزام على إخراج الأقل عينا وكذلك كل أقل مع أكثر الماهية الكلية مشتركة بينهما فيلزم أحد نوعيها عينا وهو الأقل بالضرورة كما تقدم فهذا ضابط هذه القاعدة ، وأما مثال قاعدة الأعم الذي لا يستلزم أحد أنواعه عينا فهذا هو المهيع العام والأكثر في الحقائق الذي لا يكاد يعتقد غيره كالحيوان فإنه لا يستلزم الناطق ولا البهيم عينا من أنواعه مع أنه لا يوجد إلا في ناطق أو بهيم ولا يوجد في غيرهما وسبب عدم التزامه لأحدهما عينا تباينهما .
فإذا قلنا : في الدار حيوان لا يعلم أهو ناطق أو بهيم وكذلك حقيقة العدد لها نوعان الزوج والفرد وهي لا تستلزم أحدها عينا فإذا قلنا مع زيد عدد من الدراهم لا يشعر هل هو زوج أو فرد لحصول التباين بين الزوج والفرد وكذلك إذا قلنا لون حقيقة كلية لا إشعار للفظها بسواد ولا بياض بخصوصه نعم لا بد من خصوص لكن لا يتعين بخلاف القسم الأول يتعين فيه أحد الأنواع ، وبهذا التحرير يظهر بطلان قول من يقول إن قول الموكل لوكيله بع لا دلالة له على شيء [ ص: 15 ] من أنواع هذا اللفظ لا ثمن المثل ولا الفاحش ولا الناقص وإنما تعين ثمن المثل من العادة لا من اللفظ فنقول أما قولهم إن ثمن المثل إنما تعين من جهة العادة لا من جهة اللفظ فصحيح ، وأما قولهم إن اللفظ لا إشعار له بشيء من هذه الأنواع فليس كذلك بل يشعر بالثمن البخس الذي هو مطلق الثمن ؛ لأنه أدنى الرتب فلا بد منه بالضرورة فكان اللفظ دالا عليه بطريق الالتزام والزائد على ذلك دلت عليه العادة فظهر الفرق بين القاعدتين ويحصل من هذا الفرق والفرق المتقدم في التخيير أن ذوات الرتب مستثناة من قاعدتين قاعدة التخيير فيختلف الحكم مع التخيير وقاعدة أن الأعم لا يستلزم الأخص عينا فإن الأعم فيها يستلزم الأخص عينا فتأمل ذلك فهو من نوادر المباحث
حاشية ابن الشاط
[ ص: 13 ] قال ( الفرق الحادي والخمسون بين قاعدة الأعم الذي لا يستلزم الأخص عينا وبين قاعدة الأعم الذي يستلزم الأخص عينا ) اشتهر بين النظار والفضلاء في العقليات والفقهيات أن الأعم لا يستلزم أحد أنواعه عينا وإنما يستلزم الأعم مطلق الأخص لا أخص معينا إلى قوله : ( لا يكاد يختلف منهم في ذلك اثنان ) قلت : ما اشتهر بين النظار هو القول الصحيح الذي لا يكاد يختلف فيه منهم اثنان ولا وجه هنا ليكاد .
قال ( وليس الأمر كذلك بل الأمر في ذلك مختلف وهما قاعدتان مختلفتان ) قلت : بل الأمر كذلك وليس الأمر في ذلك بمختلف وليس ها هنا قاعدتان بوجه بل هي قاعدة واحدة فهذا الفرق باطل .
قال ( وتحرير ضبطهما والفرق بينهما أن الحقيقة العامة تارة تقع في رتب مترتبة بالأقل والأكثر والجزء والكل وتارة تقع في رتب متباينة ) قلت : ذلك مسلم .
قال ( فمثال الأول مطلق الفعل الأعم من المرة الواحدة والمرات فالمرة رتبة دنيا والمرات رتبة عليا [ ص: 14 ] لأنها فوق المرة ) قلت : وذلك مسلم .
قال ( ومع ذلك فلا بد في دخول الفعل في الوجود من المرة الواحدة عينا إلى قوله فهذا ضابط هذه القاعدة ) قلت : ما أبعد قائل هذا الكلام عن التحقيق والتحصيل وهل يستريب ذو عقل أنه إذا دخل فعل ما في الوجود مرات أنه لم يدخل فيه مرة واحدة وأنه إذا دخل فيه مرة واحدة لم يدخل فيه مرات ؟
وكيف يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وما حمله على ما قاله إلا توهمه أن المرة الواحدة من الفعل المنفردة هي بعينها المجتمعة مع أخرى أو آخر ليس الأمر كما توهم كيف والمرة الواحدة مقيدة بقيد الانفراد والمرة المقرونة بأخرى أو آخر مقيدة بقيد الاجتماع والقيدان واضح تناقضهما وضوحا لا ريب فيه .
قال ( وأما مثال قاعدة الأعم الذي لا يستلزم أحد أنواعه عينا فهذا هو المهيع العام والأكثر في الحقائق الذي لا يكاد يعتقد غيره كالحيوان فإنه لا يستلزم الناطق ولا البهيم عينا من أنواعه مع أنه لا يوجد إلا في ناطق أو بهيم ولا يوجد في غيرهما إلى قوله بخلاف القسم الأول فيتعين فيه أحد الأنواع ) قلت : قوله فهذا هو المهيع العام الأكثر ليس كما قال بل هو المهيع الذي لا مهيع سواه . وقوله " بخلاف القسم الأول " قد تبين أنه ليس بخلافه .
قال ( وبهذا التحرير يظهر بطلان قول من يقول أن قول الموكل لوكيله بع لا دلالة له على شيء [ ص: 15 ] من أنواع هذا اللفظ لا ثمن المثل ولا الفاحش ولا الناقص وإنما تعين ثمن المثل من العادة لا من اللفظ فنقول أما قولهم إن ثمن المثل إنما تعين من جهة العادة لا من جهة اللفظ فصحيح ) قلت : تسليمه ما سلم صحيح .
قال ( وأما قولهم إن اللفظ لا إشعار له بشيء من هذه الأنواع فليس كذلك بل يشعر بالثمن البخس الذي هو مطلق الثمن ؛ لأنه أدنى الرتب فلا بد منه بالضرورة فكان اللفظ دالا عليه بطريق الالتزام والزائد على ذلك دلت عليه العادة ) قلت : لا يمكن أن يفوه أحد بأشد فسادا من هذا الكلام وكيف يدل اللفظ على ما لا يقصده المتكلم به ولا جرت له عادة ولا عرف باستعماله فيه وهل يريد عاقل بيع مبيعه بالبخس من غير ضرورة إلى ذلك ثم كيف يكون البخس هو مطلق الثمن وهو أحد أنواع مطلق الثمن وهل يمكن أن يكون النوع هو البخس بعينه وهل يمكن اجتماع الإطلاق والتقييد في شيء واحد وهما نقيضان هذا كله خطأ فاحش لا ريب فيه ، وإنما أوقعه في ذلك توهمه أن الأقل المنفصل جزء من الأكثر المتصل وهو باطل كما سبق القول فيه والتنبيه عليه .
قال ( فظهر الفرق بين القاعدتين إلى قوله فإن الأعم فيها يستلزم الأخص عينا ) قلت : لم يظهر فرق والأصح أنهما قاعدتان بل قاعدة واحدة لا تتفرع ولا تنقسم من الوجه الذي ذكره بوجه وكذلك قاعدة التخيير التي أشار إليها قد تبين أنه لا فرق فيها بين المختلفين المخير بينهما وإن كان اختلافهما بالأقل والأكثر والجزء والكل .
قال ( فتأمل ذلك فهو من نوادر المباحث ) قلت : في اقتضائه من الخطأ إلى أبعد الغايات
حاشية ابن حسين المكي المالكي
( الفرق الحادي والخمسون بين قاعدة الأعم الذي لا يستلزم الأخص عينا وبين قاعدة الأعم الذي يستلزم الأخص عينا ) [ ص: 15 ] على ما زعمه الأصل من أنهما قاعدتان مختلفتان لا قاعدة واحدة هي أن الأعم لا يستلزم أحد أنواعه عينا وإنما يستلزم الأعم مطلق الأخص ضرورة أن دخول الحقائق الكلية في الوجود مجردة محال فلا بد لها من مطلق شخص تدخل معه فيه وتكون ماهية مخلوطة وماهية بشرط لا شيء خلاف لما اشتهر بين النظار والفضلاء في العقليات والفقهيات بناء على توهمه أن الأقل من الفعل كالمرة في حال الانفراد هو عين نفسه في حال اجتماعه مع غيره ككون المرة مع أخرى أو آخر حتى صح أن يوصف بالكثير والأكثر وكذلك الجزء منفردا عين نفسه مع الكل فقال : إن الأعم إذا وقع في رتب مترتبة بالأقل والأكثر والجزء والكل استلزم نوعه الأقل والجزء جزما ضرورة أنه لا بد لدخوله في الوجود مع الأقل والجزء عينا ؛ لأنه إن وقع في الأكثر والكل فقد وقع الأقل والجزء عينا وإن وقع في الأقل والجزء فقد وقعا عينا أيضا ، وأما إذا وقع الأعم في رتب متباينة كالحيوان إن وقع في نوعين متباينين هما الناطق والبهيم فإنه لا يستلزم أحد نوعيه عينا ، وإن كان لا يوجد إلا في ناطق أو بهيم لتباين نوعيه .
فإذا قلنا : في الدار حيوان لا يعلم أهو ناطق أو بهيم بخلاف ما إذا قال الموكل لوكيله بع فإن لفظه هذا يشعر بالثمن البخس الذي هو مطلق الثمن ؛ لأنه أدنى الرتب فلا بد منه بالضرورة فكان اللفظ دالا عليه بطريق الالتزام وثمن المثل الزائد على ذلك إنما دلت عليه العادة لا اللفظ فظهر بطلان قول من يقول إن لفظ بع لا دلالة على شيء من أنواعه لا ثمن المثل ولا الفاحش ولا الناقص وإنما تعين ثمن المثل من العادة لا من اللفظ . ا هـ .
قال ابن الشاط : وما اشتهر بين النظار هو القول الصحيح الذي لا يختلف فيه منهم اثنان وليس هاهنا قاعدتان بل هي قاعدة واحدة لا تتفرع ولا تنقسم من الوجه الذي ذكره القرافي بوجه وما ذكره من الفرق باطل إنما أوقعه فيه توهمه أن الأقل المنفصل جزء من الأكثر المتصل وأن المرة الواحدة من الفعل مقيدة بقيد الانفراد هي عين نفسها مقرونة بأخرى أو آخر ومقيدة بقيد الاجتماع وهو واضح البطلان وضوحا لا ريب فيه ضرورة أن الشيء مع غيره غيره في نفسه وأن قيد الانفراد يناقض قيد الاجتماع بلا شبهة بل لا يمكن أن يفوه أحد بأشد فسادا مما بناه على هذا التوهم من قوله إن قول الموكل لوكيله بع [ ص: 16 ] يدل التزاما على الثمن البخس الذي هو مطلق الثمن ؛ لأنه أدنى الرتب فلا بد منه بالضرورة وثمن المثل الزائد على ذلك إنما دلت عليه العادة لا اللفظ إذ كيف يدل اللفظ على ما لا يقصده المتكلم به ولا جرت عادة ولا عرف باستعماله فيه ، وهل يريد عاقل بيع مبيعه بالبخس من غير ضرورة إلى ذلك ؟ ثم كيف يكون البخس هو مطلق الثمن وهو أحد أنواع مطلق الثمن ؟ وهل يمكن أن يكون النوع هو البخس بعينه ؟ وهل يمكن اجتماع الإطلاق والتقييد في شيء واحد ؟ هذا كله خطأ فاحش لا ريب فيه ا هـ . قلت : وحيث ثبت بطلان هذا الفرق فالصواب إبداله بالفرق بين قاعدة العموم في خصوص العين وقاعدة العموم في خصوص الحال قال الإمام ابن العربي في كتابه أحكام القرآن : من غريب فنون الترجيح ترجيح العموم في خصوص العين على العموم في خصوص الحال وذلك أن بعض علمائنا قال : إن دم الحيض كسائر الدماء يعفى عن قليله تمسكا بعموم قوله تعالى { أو دما مسفوحا } فإنه يتناول الكثير دون القليل وهو عموم في خصوص حال الدم .
وقال البعض الآخر قليله وكثيره سواء في التحريم رواه أبو ثابت عن ابن القاسم nindex.php?page=showalam&ids=16472وابن وهب nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك تمسكا بقوله تعالى بل هو أذى فإنه يعم القليل والكثير وهو عموم في خصوص عين الدم فيترجح على الآخر ؛ لأن حال العين أرجح من حال الحال قال : وقد بيناه في أصول الفقه وهو ما لم نسبق إليه ولم نزاحم عليه انتهى بتصرف والله سبحانه وتعالى أعلم .