في المواطن التي اختلف العلماء في الاكتفاء فيها بالنية وهو ما دل اللفظ عليه التزاما قالت الحنفية لا تؤثر النية فيه تقييدا ولا تخصيصا وقالت بقية الفرق تؤثر النية في المدلول التزاما كالمطابقة من غير فرق ومثلوا هذه المسألة بقول القائل والله لا أكلت فقالت الفرق المالكية والشافعية يجوز أن ينوي مأكولا معينا فلا يحنث بأكل غيره وقالت الحنفية لا يجوز دخول النية ها هنا وإن نوى بطلت نيته وحنث بأي مأكول أكله فإن اللفظ إنما دل مطابقة على نفي الأكل الذي هو المصدر ومن لوازم مصدر الأكل مأكول ما وذلك المأكول لم يلفظ به فلا يجوز دخول النية فيه لأنه مدلول التزامي واحتجوا على ذلك بأمور ( أحدها ) أن الأصل اعتبار اللفظ المنطوق به بحسب الإمكان خالفنا ذلك فيما دل اللفظ عليه مطابقة وبقي فيما عداه على الأصل ووجه المناسبة أن تحكيم النية في اللفظ باعتبار معناه فرع تناول ذلك اللفظ لذلك المعنى والتناول إنما هو محقق في المطابقة والتضمن أما الالتزام فتبع جاء من جهة العقل فتقرر اللفظ فيه ضعيف فتصرف النية فيه [ ص: 67 ] كذلك فلا يترك ما أجمعنا عليه لهذا الضعيف المختلف فيه
( وثانيها ) أن الاستقراء دل على أن النية لا تدخل إلا فيما دل اللفظ عليه مطابقة واعتبار النيات في الألفاظ أمر يتبع اللغة ألا ترى أن اللغة لما لم تجوز النية في صرف أسماء الأعداد إلى المجازات امتنع فلا يجوز أن تطلق العشرة وتريد بها التسعة
( وثالثها ) أنه لو صح دخول النية في المدلول الالتزامي لصح المجاز في كل لازم المسمى بالنية والقصد إليه وليس كذلك لأن الأسد يلزمه أوصاف كثيرة من البخر والحمى والوبر وكبر الرأس وغير ذلك ولا يصح التجوز عنه إلا باعتبار الشجاعة خاصة ولا يصح دخول النية في غيرها حتى تصرف للمجاز لأنا نشترط في مثل هذا المجاز وهو مجاز المشابهة أن تكون الصفة التي وقعت فيها المشابهة أظهر صفات المحل المتجوز عنه وحجة المالكية والشافعية من وجوه ( أحدها ) أنا أجمعنا على ما إذا قال والله لا أكلت أكلا أنه يصح أن ينوي بعض المآكل ويخرج البعض بنيته مع أن أكلا مصدر وأجمع النحاة على أن التصريح به بعد الفعل إنما هو للتأكيد نحو ضربت ضربا فإن الفعل دل عليه فذكره بعد ذلك يكون تكرارا لذكره فيكون تأكيدا لأنه حينئذ مذكور مرتين والتأكيد حقيقته تقوية المعنى الأول من غير زيادة وإلا لكان إنشاء لا تأكيدا وإذا لم يكن التأكيد منشئا كانت الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله لكن الثابت معه اعتبار النية فالثابت قبله اعتبار النية وهو المطلوب
( وثانيها ) أن النية اعتبرت في المطابقة إجماعا مع قوة المعارض فأولى أن تعتبر مع ضعف المعارض في دلالة الالتزام بطريق الأولى وإنما قلنا إن المطابقة أقوى معارضة للنية لأن المطابقة هي الأصل المقصود بوضع اللغة وغيرها إنما يفيده اللفظ تبعا لها والأصل أقوى من التابع ومع ذلك إذا عارضت النية المطابقة وصرفت اللفظ عن مدلوله المطابقي للمجاز صح إجماعا مع أن اللفظ يمنعها من ذلك ويقتضي مسماه بطريق الحقيقة فقد قدمت النية على اللفظ المطابقي وهو أقوى في المعارضة من دلالة الالتزام فأولى أن تعتبر النية في دلالة الالتزام ويصرف عموم اللازم إلى خصوصه وتقييد مطلقه وجميع ما أجمعنا عليه في المدلول المطابقي بطريق الأولى وهو المطلوب
( وثالثها ) أنا وجدنا الاستثناءات في لسان العرب دخلت على العوارض الخارجة عن المدلول المطابقي واللوازم ولفظ الاستثناء إنما هو فرع عن إرادة المعنى الذي قصد لأجله الاستثناء فإن اللفظ تابع لإرادة المعنى فإنه يقصد به إفهام السامع ما في نفس [ ص: 68 ] المتكلم فمتى دخل الاستثناء في المدلول التزاما دل ذلك على دخول النية قبله في المدلول الالتزامي ، وبيان دخول الاستثناء في المدلول التزاما أو بطريق العرض من وجوه
( أحدها ) قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } هذا استثناء من الأحوال العارضة أو اللازمة لمعنى الإتيان وتقدير الكلام لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا في حال الإحاطة بكم فإني لا ألزمكم الإتيان به فيها لقيام العذر حينئذ
وثانيها قوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين } وفي الآية الأخرى { إلا استمعوه وهم يلعبون } أي لا يأتيهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم فقد قصد إلى حالة اللهو والإعراض بالإثبات ولغيرها من الأحوال بالنفي والأحوال أمور خارجة عن المدلول المطابقي وإذا كانت خارجة فإن كانت الأحوال اللازمة فقد دخلت النية في المدلول التزاما وإن كانت عارضة فقد دخلت النية في العوارض وإذا دخلت في العوارض دخلت في اللوازم بطريق الأولى فإن العارض أبعد عن مدلول اللفظ مطابقة من اللازم ضرورة فإذا تصرفت النية في البعيد أولى أن تتصرف في القريب لأنه أشبه بالمطابقة المجمع عليها من العارض لبعده عن المطابقة
( وثالثها ) أنه قصد إلى المدلول التزاما من غير استثناء بل بالنية المجردة ودل الدليل الخارجي على ذلك وهو عين صورة النزاع ويدل عليه وجوه
( أحدها ) قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } والمدلول مطابقة في هذه الآية غير مراد فإن الأعيان لا تحرم بل الأفعال المتعلقة بها وهي الأكل والتناول فقد قصدت بالتحريم من غير لفظ يدل على ذلك مقارن بل الأدلة الخارجة أفادتنا ذلك وهذه الأفعال إن كانت لازمة حصل المقصود لوجوه تصرف النية فيها بإضافة التحريم إليها دون غيرها ولا سيما أن النية تعين في كل عين الفعل المناسب لها فتعين في الخمر الشرب وفي الميتة الأكل وكذلك جميع الأعيان الواردة في النصوص وإن كانت هذه الأفعال المقصودة عارضة وقد تصرفت النية فيها فالأولى أن تتصرف في اللازم لأن اللازم أقرب للمطابقة من العارض
( وثانيها ) قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } والمراد الاستمتاع المتعلق بهن دون أعيانهن المذكورة في الآية ووجه التقدير ما تقدم في الخمر والخنزير [ ص: 69 ]
( وثالثها ) قوله تعالى { nindex.php?page=hadith&LINKID=87365ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يكون إلا ما أريد } قال العلماء التردد على الله تعالى محال غير أنه لما جرت العادة أن كل شخص أنت تعظمه وتهتم به فإنك تتردد في مساءته نحو ولدك وصديقك ، ومن لا تعظمه كالعقرب والحية وعدوك فإنك إذا خطر بقلبك إيلامه ومساءته لا تتردد في ذلك بل تبادر إليه ، فصار التردد لا يقع إلا في موطن التعظيم وعدمه في موطن الحقارة وإن كان التردد في الإحسان انعكس الحال فيحصل في حق الحقير دون العظيم إذا تقرر هذا قال العلماء المتحدثون على هذا الحديث : المراد بذكر التردد في هذا الحديث الدلالة على عظم منزلة المؤمن عند الله تعالى وعبر باللفظ المركب عما يلزمه وهو نفسه ليس مرادا فيصير معنى الحديث : منزلة المؤمن عندي عظيمة وجميع ما وقع في مدلول هذا المركب ليس مرادا فقد قصد إلى لازم اللفظ وأضيف إليه الحكم وهذا بعينه هو تصرف النية فإن النية هي القصد بعينه وإذا صح القصد صحت النية في اللازم وهو المطلوب فهذه وجوه واضحة في دخول النيات والمقاصد في المدلول التزاما في مقتضى اللغة وبها يظهر الجواب عما اعتمدوا عليه أما الأول وهو قولهم نفيناه فيما عدا المطابقة على مقتضى الأصل فجوابه أن ما ذكرناه من الأدلة والاستعمالات دل على مخالفة الأصل وأن العرب أجازت النية في الالتزام كما أجازتها في المطابقة ثم إن الأصل معارض بأن الأصل عدم الحجر علينا .
وأما الثاني وهو قولهم إن الاستقراء دل على عدم دخول النية في المدلول التزاما فما ذكرناه من النصوص والاستعمالات يبطل استقراءهم والمثبت مقدم على النافي .
وأما الثالث وهو قولهم لو صح دخول النية في المدلول التزاما لصح المجاز في كل شيء هو لازم قلنا وإنه كذلك فإنه يصح عندنا التجوز لكل لازم لأن العلاقة عندنا الملازمة وهي حاصلة بل يصح عندنا المجاز في غير اللازم كالتعبير بلفظ الجزء عن الكل مع أن الكل غير لازم للجزء وأما ما ذكرتموه [ ص: 70 ] من المثال فذلك المنع إنما جاء من خصوص كونه مجاز تشبيه لا من عموم كونه مجازا فإنا نشترط في مجاز التشبيه أظهر صفات المتجوز عنه ولا يصح التشبيه بالمعاني الخفية فهذا بحث خاص بالاستعارة التي هي مجاز تشبيه وما عدا ذلك من أنواع المجاز فهذا الشرط فيها ساقط ولا يلزم من امتناع أمر في الأخص أن يمتنع في الأعم منه فلا يلزم إذا حرم قتل الإنسان أن يحرم قتل مطلق الحيوان ولا من تحريم شرب الخمر أن يحرم مطلق المائع ولا من تحريم لحم الخنزير أن يحرم مطلق اللحم فلا يلزم من امتناع خاص في مجاز التشبيه أن يحصل الامتناع في أصل المجاز بل الذي نعتقده أن التجوز يصح في كل لازم إلا ما تقدم من مجاز التشبيه خاصة فهذا تلخيص هذه المسألة والحجاج فيها .
قلت في قوله ما دل اللفظ عليه التزاما عندي نظر فإن المصدر هو الذي يدل على معناه وهو القيام مثلا والضرب فأما القيام فيدل بالالتزام على فاعله وأما الضرب فيدل بالالتزام أيضا على فاعله ومفعوله وأما الفعل فهو مبني لوقوع المصدر من فاعله إن كان غير متعد أو من فاعله بمفعوله إن كان متعديا وما بني اللفظ له أو ما تقيد به كيف يقال دل عليه اللفظ التزاما بل الأقرب أن يدل عليه تضمنا والله أعلم .
قال ( قالت الحنفية لا تؤثر النية فيه تقييدا ولا تخصيصا إلى آخر احتجاجهم الأول ) قلت ما قالوه في أثناء احتجاجهم من أن تناول اللفظ إنما هو محقق في المطابقة والتضمن ليس بصحيح لأن دلالة الألفاظ ليست عقلية بل هي وضعية ولم يوضع لفظ المسجد مثلا إلا لجملته لا لجملته وبعضه وهو السقف مثلا وإلا لكان ذلك اللفظ مشتركا وليس الكلام المفروض إلا على تقدير أن لفظ المسجد لم يوضع للسقف وإذا كان الأمر كذلك فلا دلالة للفظ المسجد على السقف أصلا لأن الألفاظ لا تدل عقلا وإنما تدل وضعا وقد عدم الوضع فلا دلالة له ألبتة ، نعم هنا أمر وهو أن من يذكر له لفظ يدل على مجموع أشياء بالوضع فإنه يتذكر ما تركب منه ذلك المجموع أو لازم ذلك المجموع فمن اعتبر هذا القدر وسمى هذا التذكر دلالة فلا حجر عليه لكنه يدخل اللبس في كلامه على سامع ذلك منه حين يذكر هاتين الدلالتين اللتين معناهما تذكر الشيء عند ذكر الشيء مع ذكره الدلالة الوضعية من جهة أن لفظ الدلالة لم يوقعه على الوضعية والتذكر بالتواطؤ بل بالاشتراك وذلك مما يوقع الغلط كثيرا والله أعلم ولا كلام فيه [ ص: 67 ] قال
( وثانيها إلى آخر احتجاجهم ) قلت ذلك نقل ولا كلام فيه قال ( وحجة المالكية والشافعية من وجوه إلى آخر الوجه الثالث ) قلت هذه الوجوه الثلاثة صحيحة جيدة [ ص: 68 ] قال
( وثالثها أنه قصد إلى المدلول التزاما إلى قوله ووجه التقدير ما تقدم في الخمر والخنزير ) قلت ليس ما قاله هنا من أن دلالة اللفظ في قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } دلالة التزام بصحيح بل هي دلالة مطابقة عرفا وكانت الدلالة قبل العرف بلفظ الميتة دلالة مطابقة على الميتة نفسها ثم صارت بعد العرف دلالة مطابقة على أكلها وكذلك كل دلالة عرفية إنما هي دلالة مطابقة على ما صارت فيه عرفا [ ص: 69 ] قال
قال ( فهذه وجوه واضحة في دخول النيات والمقاصد في المدلول التزاما في مقتضى اللغة ) قلت هو كما قال إلا ما وقع التنبيه عليه من مثل قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } قال ( وبها يظهر الجواب عما اعتمدوا عليه إلى آخر ما قاله في هذه المسألة ) قلت ما قاله في ذلك صحيح مع أنه لا شك أن الأصل إنما هو النيات والمقاصد والألفاظ وصلة إلى تعريفها وتعرفها فإذا صرفت النيات الألفاظ إلى شيء أي شيء كان انصرفت إليه والله أعلم .
حاشية ابن حسين المكي المالكي
[ ص: 70 ] المسألة الثالثة )
اختلف العلماء في الاكتفاء بالنية في تقييد المطلقات وتخصيص العمومات المدلول عليهما بغير الدلالة الوضعية المطابقية فقالت الحنفية ولا تؤثر النية في ذلك تقييدا ولا تخصيصا وقالت بقية الفرق تؤثر النية في المدلول التزاما وتضمنا تقييدا وتخصيصا كالمطابقة من غير فرق ومثلوا هذه المسألة بقول القائل والله لا أكلت فقالت الفرق المالكية والشافعية والحنابلة يجوز أن ينوي مأكولا معينا فلا يحنث بأكل غيره وقالت الحنفية لا يجوز دخول النية ها هنا وإن نوى بطلت نيته وحنث بأي مأكول أكله لأن لفظ الفعل المتعدي لا يدل على المفعول الذي هو المأكول بل ولا على الفاعل بالمطابقة بل إنما يدل على ذلك إما بالتضمن وإما بالالتزام على الخلاف في كون النسبة لكل منهما داخلة في مفهوم الفعل وهو ما جزم به ابن الشاط وبه صرح غير واحد من المحققين كالعضد والعصام والسيد والفتري وشيخ الإسلام الهروي وإليه يشير [ ص: 89 ] تأييد التفتازاني قول العضد باستعارة الفعل باعتبار النسبة المبني على دخولها فيه أو غير داخلة فيه وهو مفاد ابن مالك في الخلاصة حيث قال فيها المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل إلخ وعزاه الفناري في فصول البدائع إلى ابن الحاجب والصبان في حواشي الأشموني للجمهور كما في بيانية الصبان والأنبابي عليها وقال الصبان في بيانيته في شرح شيخنا إن الحق عدم دخولها فيه نعم الفعل ملحوظ فيه النسبة إلى الفاعل أو نائبه مطلقا سواء قلنا إنها داخلة في مفهومه أو خارجة عنه كما ذكره شيخنا وغيره ا هـ المراد وحيث لم يدل على المأكول إلا بالتضمن أو الالتزام ولم يلفظ به فلا يجوز دخول النية محتجين على ذلك بأمور
( أحدها ) أن الأصل اعتبار اللفظ المنطوق به بحسب الإمكان وخالفنا ذلك فيما دل اللفظ عليه مطابقة وبقي فيما عداه على الأصل ووجه ذلك أن تحكيم النية في اللفظ باعتبار معناه فرع تناول ذلك اللفظ لذلك المعنى والتناول إنما هو محقق في المطابقة وأما التضمن والالتزام فتبع جاء من جهة العقل وذلك لأن دلالة الألفاظ وضعية لا عقلية ولم يوضع لفظ المسجد مثلا إلا لجملته لا لجملته وبعضه الذي هو السقف مثلا ولازمه الذي هو أداء العبادة فيه مثلا وإلا لكان ذلك اللفظ مشتركا واللازم باطل فلا دلالة للفظ المسجد على السقف ولا على أداء العبادة أصلا نعم هنا أمر وهو أن من يذكر له لفظا يدل على مجموع أشياء بالوضع فإنه يتذكر ما تركب منه ذلك المجموع فمن اعتقد هذا القدر وسمى هذا التذكر دلالة فلا حجر عليه لكنه يدخل اللبس في كلامه على سامع ذلك منه حين يذكر هاتين الدلالتين اللتين معناهما تذكر الشيء عند ذكر الشيء مع ذكره الدلالة الوضعية من جهة أن لفظ الدلالة لم يوقعه على الوضعية والتذكر بالتواطؤ بل بالاشتراك وذلك مما يوقع الغلط كثيرا وإذا كانت دلالة اللفظ على الجزء واللازم تبعا لدلالته على الكل ، والملزوم جاء من جهة العقل لا من جهة الوضع والألفاظ إنما تدل وضعا لا عقلا كان تقرير اللفظ في الجزء واللازم ضعيفا فيكون تصرف النية فيه كذلك فلا يترك ما أجمعنا عليه لهذا الضعيف [ ص: 90 ] المختلف فيه
( وثانيها ) أن الاستقراء دال على أن النية لا تدخل إلا فيما دل اللفظ عليه مطابقة واعتبار النيات في الألفاظ أمر يتبع اللغة ألا ترى أن اللغة لما لم تجوز النية في صرف أسماء الأعداد إلى المجازات امتنع فلا يجوز أن تطلق العشرة وتريد بها التسعة
( وثالثها ) أنه لو صح دخول النية في المدلول الالتزامي والتضمن لصح المجاز في كل لازم أو جزء المسمى بالنية والقصد إليه وليس كذلك ألا ترى أن الأسد يلزمه أوصاف كثيرة من البخر والحمى والوبر وكبر الرأس وغير ذلك ولا يصح التجوز عنه إلا باعتبار الشجاعة خاصة ولا يصح دخول النية في غيرها حتى تصرف للمجاز لأنا نشترط في مثل هذا المجاز وهو مجاز المشابهة أن تكون الصفة التي وقعت فيها المشابهة أظهر صفات المحل المتجوز عنه فافهم ( وحجة المالكية ) والشافعية والحنابلة من وجوه
( أحدها ) أنا أجمعنا على ما إذا قال والله لا أكلت أكلا أنه يصح أن ينوي بعض المآكل ويخرج البعض بنيته مع أن أكلا مصدر وأجمع النحاة على أن التصريح به بعد الفعل إنما هو للتأكيد نحو ضربت ضربا فإن الفعل دل عليه فذكره بعد ذلك يكون تكرارا لذكره فيكون تأكيدا وحقيقة التأكيد تقوية المعنى الأول من غير زيادة وإلا لكان إنشاء لا تأكيدا وإذا لم يكن التأكيد منشأ كانت الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله لكن الثابت معه اعتبار النية فالثابت قبله اعتبار النية وهو المطلوب
( وثانيها ) أن النية حيث اعتبرت مع قوة المعارض لها في المطابقة إجماعا فلأن تعتبر مع ضعف المعارض لها في دلالتي التضمن والالتزام بطريق الأولى ، وكون المطابقة أقوى معارض للنية من غيرها ظاهر من كونها هي الأصل المقصود بوضع اللغة وغيرها إنما يفيده اللفظ تبعا لها والأصل أقوى من التابع
( وثالثها ) أنا وجدنا الاستثناءات في لسان العرب دخلت على اللوازم والعوارض الخارجة عن المدلول المطابقي ولفظ الاستثناء إنما هو فرع عن إرادة المعنى الذي قصد لأجله الاستثناء لأن اللفظ تابع لإرادة المعنى فإنه يقصد به إفهام السامع ما في نفس المتكلم فمتى دخل الاستثناء في المدلول التزاما دل ذلك على دخول النية قبله في المدلول الالتزامي ، وبيان [ ص: 91 ] دخول الاستثناء في المدلول التزاما أو بطريق العرض من وجهين
( أحدهما ) قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } فإن تقدير الكلام لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا في حالة الإحاطة بكم فإني لا ألزمكم الإتيان به فيها لقيام العذر حينئذ فهذا استثناء من الأحوال العارضة أو اللازمة لمعنى الإتيان
( وثانيها ) قوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين } وفي الآية الأخرى { إلا استمعوه وهم يلعبون } أي لا يأتيهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم فقد قصد إلى حالة اللهو والإعراض بالإثبات ولغيرها من الأحوال بالنفي والأحوال أمور خارجة عن المدلول المطابقي وإذا كانت الأحوال خارجة فإن كانت لازمة فقد دخلت النية في المدلول التزاما وإن كانت عارضة فقد دخلت النية في العوارض وإذا دخلت في العوارض دخلت في اللوازم بطريق الأولى فإن العارض أبعد عن مدلول اللفظ مطابقة من اللازم ضرورة وإذا تصرفت النية في البعيد فأولى أن تتصرف في القريب لأنه أشبه بالمطابقة المجمع عليها من العارض لبعده من المطابقة
( ورابعها ) أنا وجدنا النية المجردة تصرفت في المدلول التزاما وهو عين صورة النزاع في قوله تعالى في الحديث القدسي { nindex.php?page=hadith&LINKID=87365ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يكون إلا ما أريد } قال العلماء المراد بذكر التردد في هذا الحديث الدلالة على عظم منزلة المؤمن عند الله تعالى لأن العادة جرت أن كل شخص أنت تعظمه وتهتم به كولدك وصديقك فإنك تتردد في مساءته وأن من لا تعظمه كالعقرب والحية وعدوك فإنك إذا خطر بقلبك إيلامه ومساءته لا تتردد في ذلك بل تبادر إليه فصار التردد لا يقع إلا في موطن التعظيم وعدمه في موطن الحقارة فإن كان التردد في الإحسان انعكس الحال فيحصل في حق الحقير دون العظيم فيصير معنى الحديث : منزلة المؤمن عندي عظيمة وجميع ما وقع في مدلول هذا المركب ليس مرادا فقد قصد إلى لازم اللفظ وأضيف إليه الحكم وهذا بعينه هو تصرف النية فإن النية هي القصد بعينه فإذا صح القصد في [ ص: 92 ] اللازم صحت النية فيه وهو المطلوب فهذه وجوه أربعة واضحة في دخول النيات والمقاصد في المدلول التزاما وكذا تضمنا في مقتضى اللغة وبها يظهر الجواب على ما اعتمدوا عليه
( أما الأول ) وهو قولهم نفيناه فيما عدا المطابقة على مقتضى الأصل فجوابه أن ما ذكرناه من الأدلة والاستعمالات دل على مخالفة الأصل وأن العرب أجازت النية في الالتزام كما أجازتها في المطابقة ثم إن الأصل معارض بأن الأصل عدم الحجر علينا على أنه لا شك أن الأصل إنما هو النيات والمقاصد وإنما الألفاظ وصلة إلى تعريفها وتعرفها فإذا صرفت النيات الألفاظ إلى شيء أي شيء كان انصرفت إليه
( وأما الثاني ) وهو قولهم إن الاستقراء دل على عدم دخول النية في المدلول التزاما أو تضمنا فجوابه أن ما ذكرناه من النصوص والاستعمالات يبطل استقراءهم إذ المثبت مقدم على النافي
( وأما الثالث ) وهو قولهم لو صح دخول النية في المدلول التزاما أو تضمنا لصح المجاز في كل شيء هو لازم أو جزء فجوابه أنه لا مانع عندنا من صحة المجاز في كل لازم أو جزء لأن العلاقة عندنا الملازمة لا خصوص المشابهة بل يصح عندنا المجاز في غير اللازم كالتعبير بلفظ الجزء عن الكل كما في قوله تعالى { فك رقبة } مع أن الجزء غير لازم للكل حتى أنهم لذلك اشترطوا في هذه العلاقة أن يكون الكل مركبا تركيبا حقيقيا وأن يستلزم انتفاء الجزء انتفاءه عرفا كالرأس والرقبة بخلاف الأرض للسماء والأرض والظفر والأذن للإنسان ا هـ .
أي واليد كما في المطول قال فيه وأما إطلاق العين على الربيئة فليس من حيث إنه إنسان بل من حيث إنه رقيب وهذا المعنى مما لا يتحقق بدون العين ا هـ كذا في بيانية الصبان وما ذكروه من منع استعمال الأسد في غير الشجاعة من لوازمه فهو إنما جاء من خصوص كونه مجاز تشبيه يشترط فيه أظهر صفات المتجوز عنه فلا يصح بالمعاني الخفية لا من عموم كونه مجازا ولا يلزم من امتناع أمر في الأخص أن يمتنع في الأعم منه ألا ترى أن تحريم قتل الإنسان لم يلزم منه تحريم قتل مطلق حيوان ولا من تحريم شرب الخمر تحريم مطلق مائع ولا من تحريم لحم الخنزير تحريم مطلق اللحم فالذي نعتقده أن المجاز يصح في كل لازم إلا ما تقدم [ ص: 93 ] من مجاز التشبيه خاصة هذا تلخيص هذه المسألة والحجاج فيها .