( الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف )
اعلم أن الملك أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء فإنه عام يترتب على أسباب مختلفة البيع والهبة والصدقة والإرث وغير ذلك فهو غيرها ولا يمكن أن يقال هو التصرف ؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف فهو حينئذ غير التصرف فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فقد يوجد التصرف بدون الملك كالوصي والوكيل والحاكم وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم ويوجد الملك بدون التصرف كالصبيان والمجانين وغيرهم يملكون ولا يتصرفون ويجتمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذين للكلمة الكاملين الأوصاف ، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض ، والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة [ ص: 209 ] يقتضي يمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك أما قولنا حكم شرعي فبالإجماع ؛ ولأنه يتبع الأسباب الشرعية ، وأما إنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع ، والتعلق عدمي ليس وصفا حقيقيا ، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة للملك [ ص: 210 ]
وقولنا في العين أو المنفعة فإن الأعيان تملك كالبيع والمنافع كالإجارات وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج التصرف بالوصية والوكالة وتصرف القضاة في أموال الغائبين والمجانين فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير ملك وقولنا والعوض عنه ليخرج عنه الإباحات في الضيافات فإن الضيافة مأذون فيها ، وليست مملوكة على الصحيح ويخرج أيضا الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق ، فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور [ ص: 211 ] وقولنا من حيث هو كذلك إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو ، وقد يتخلف عنه ذلك لمانع يعرض كالمحجور عليهم لهم الملك ، وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة ، لكن تلك الأملاك في تلك الصور لوجود النظر إليها اقتضت مكنة التصرف وإنما جاء المنع من أمور خارجة ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي ولذلك نقول إن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها وهي إما واجبة لغيرها إن علم الله تعالى وجودها أو مستحيلة لغيرها إن علم الله تعالى عدمها ، وكذلك ها هنا بالنظر إلى الملك يجوز التصرف المذكور وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف [ ص: 212 ]
وكذلك إذا قلنا الأوقاف على ملك الواقفين مع أنه لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من الوقف المانع من البيع كالحجر المانع من البيع فقد انطبق هذا الحد على الملك فإن ، قلت قد قالت الشافعية إن الضيافة تملك وهل بالمضغ أو بالبلع أو غير ذلك على خلاف عندهم ، فهذا ملك مع أن الضيف لا يتمكن من أخذ العوض على ما قدم له ولا يمكن من إطعامه لغيره ولذلك قال المالكية إن الإنسان قد يملك أن يملك وهل يعد مالكا أو لا قولان فمن ملك أن يملك لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه مع أنهم قد صرحوا بحقيقة الملك من حيث الجملة ، وكذلك قال المالكية وغيرهم إن الإنسان قد يملك المنفعة ، وقد يملك الانتفاع فقط كبيوت الدارس والأوقاف والربط ونحوها مع أنه في هذه الصور لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع قلت أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات لا تمليك [ ص: 213 ] كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله ولا يقال إن هذه الأمور مملوكة للناس كذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك ، والقول بأنه يملك مشكل فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة وبعد إن بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان ؛ لأنها فسدت عادة ولم تبق مقصودة التصرف ألبتة فالحق إذا أنها إباحات لا تمليكات [ ص: 214 ]
( وأما ) السؤال الثاني فقول المالكية إن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أو لا قولان قد تقدم أن هذه العبارة رديئة جدا وأنها لا حقيقة لها فلا يصح إيراد النقض بها على الحد ؛ لأنا نمنع الحكم فيها ( وأما ) السؤال الثالث وهو مالك الانتفاع دون المنفعة فهو يرجع إلى الإذن والإباحة كما في الضيافة ، فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف [ ص: 215 ] إلا أنها فيها ملك لغير الواقف بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن المالك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف فلا جرم صح أخذ العرض بها أو عنها ( فإن ، قلت ) إذا اتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو الأحكام الخمسة ( قلت ) الذي يظهر لي أنه من أحد الأحكام الخمسة وهو إباحة خاصة في تصرفات خاصة ، وأخذ العوض عن ذلك المملوك [ ص: 216 ] على وجه خاص كما تقررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق ولذلك قلنا إنه معنى شرعي مقدر يريد أنه متعلق الإباحة .
والتعليق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان ، بل في الأذهان فهي أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي كذلك ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضا ويكون الملك من خطاب التكليف ؛ لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة وخطاب الوضع هو نصب الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية ، وليس هذا منها ، بل هو إباحة خاصة ومنهم من قال إنه من خطاب الوضع وهو بعيد ( فإن قلت ) الملك سبب الانتفاع ، فيكون سببا ، فيكون [ ص: 217 ] من باب خطاب الوضع قلت وكذلك كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من مثوبات وتعزيرات ومؤاخذات وكفارات وغيرها أو ليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب ، بل نقول الزوال سبب لوجوب الظهر ، ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب ووجوبه سبب لتقديمه على غيره من المندوبات وغير ذلك مما ترتب على الوجوب مع أنه لا يسمى سببا ولا يقال إنه من خطاب الوضع ، بل الضابط للبابين أن الخطاب متى كان متعلقا بفعل مكلف على وجه الاقتضاء أو التخيير فهو من خطاب التكليف ومتى لم يكن كذلك وهو من أحد الأمور المتقدمة فهو خطاب الوضع ، وقد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف ، وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق ( فإن قلت ) الملك حيث وجد هل يتصور [ ص: 218 ] في الجواهر والأجسام أم لا يتصور إلا في المنافع خاصة .
( قلت ) قال nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري رحمه الله في شرح التلقين قول الفقهاء الملك في المبيع يحصل في الأعيان وفي الإجارات يحصل في المنافع ليس على ظاهره ، بل الأعيان لا يملكها إلا الله تعالى ؛ لأن الملك هو التصرف ولا يتصرف في الأعيان إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والأمانة والإحياء ونحو ذلك وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكنات قال وتحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع رد العين فهو الإجارة وفروعها من المساقاة والمجاعلة والقراض ونحو ذلك وإن ورد على المنافع مع أنه لا يرد العين ، بل يبذلها لغيره بعوض أو بغير عوض فهو البيع والهبة والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة فقد ظهر بهذه المباحث وهذه الأسئلة حقيقة الملك والفرق بينه وبين التصرفات وما يتوهم التباسه به .
حاشية ابن الشاط
قال ( الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف إلى قوله كالحيوان والأبيض ) قلت ما قاله في ذلك صحيح قال ( والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعرض عنه من حيث هو كذلك ) قلت هذا الحد [ ص: 209 ] فاسد من وجوه
( أحدها ) أن الملك من أوصاف المالك لا المملوك لكنه وصف متعلق والمملوك هو متعلقه
( وثانيها ) أنه ليس مقتضيا للتمكين من الانتفاع ، بل المقتضي لذلك كلام الشارع
( ثالثها ) أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك وبالعرض ، بل بأحدهما
( رابعها ) أن المملوك مشتق من الملك فلا يعرف إلا بعد معرفته فيلزم الدور والصحيح في حد الملك أنه تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو بنيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض عن العين أو المنفعة هذا إن قلنا إن الضيافة ونحوها لا يملكها من سوغت له وإن قلنا إنه يملكها زدنا في الحد فقلنا إنه تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو بنيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة ولا حاجة بنا إلى بيان صحة هذا الحد فإنه لا يخفى ذلك على المتأمل المنصف قال ( أما قولنا حكم شرعي فبالإجماع ؛ ولأنه يتبع الأسباب الشرعية ) قلت ما قاله من أنه حكم شرعي إن أراد أنه أحد الأحكام الخمسة ففيه نظر وإن أراد أنه أمر شرعي على الجملة فذلك صحيح قال .
( وأما أنه مقدور فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع إلى قوله عند تحقق الأسباب المفيدة للملك ) قلت قوله إنه عدمي بناء على أن النسب أمور [ ص: 210 ] عدمية وفيه نظر ، وأما قوله أنه مقدر في العين أو المنفعة فقد سبق أنه وصف للمالك متعلق بالعين أو المنفعة .
قال ( وقولنا في العين أو المنفعة فإن الأعيان تملك بالبيع والمنافع كالإجارات ) قلت ما قاله صحيح على ما في قوله فإن الأعيان تملك من المسامحة على ما يذكره هو بعد هذا عن nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري قال ( وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك إلى قوله فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير ملك ) قلت هذا التحرز صحيح على تقدير صحة حده .
قال ( وقولنا والعوض عنه إلى قوله مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور ) قلت جعل التصرف بدل الانتفاع وهو أعم منه بدليل ما ذكره هو قبل هذا من تصرف الأوصياء والحاكم حيث لهم التصرف دون الانتفاع وكل من ذكر هنا من ضيف وشبهه ليس له مطلق التصرف ، بل له التصرف بالانتفاع خاصة [ ص: 211 ]
قال ( وقولنا من حيث هو كذلك إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو ، وقد يتخلف عنه ذلك لمانع يعرض إلى قوله وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف ) قلت كلامه هذا يشعر بأن التصرف هو موجب الملك ، وليس الأمر كذلك ، بل موجبه الانتفاع ، ثم الانتفاع يكون بوجهين انتفاع يتولاه المالك بنفسه وانتفاع يتولاه النائب عنه ، ثم النائب قد يكون باستنابة المالك ، وقد يكون بغير استنابته فغير المحجور عليه يتوصل إلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته والمحجور عليه لا يتوصل إلى الانتفاع بملكه إلا بنيابته ونائبه لا يكون إلا باستنابته [ ص: 212 ]
قال ( وكذلك إذا قلنا الأوقاف على ملك الواقفين إلى قوله فقد انطبق هذا الحد على الملك ) قلت قد سبق أنه ليس بحد صحيح قال ( فإن قلت قد قالت الشافعية إلى قوله مع إنه في هذه الصور لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع ) ، قلت ذلك حكاية سؤالات ولا كلام في ذلك قال ( قلت أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات لا تمليك ) قلت ما قاله غير صحيح ، بل الصحيح أنها تمليك للانتفاع بالأكل خاصة سواء أوقع البناء على الحد الذي ارتضيته أو على الحد الذي [ ص: 213 ] ارتضاه هو أما على الحد الذي ارتضيته فلأن مقدم الضيافة قد مكنه من الانتفاع بأكلها ، وأما على الحد الذي ارتضاه هو فلأنه قال حكم مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك وبالعوض عنه ، وقد بينا أنه لا يقتضي الانتفاع بهما فيبقى الانتفاع مطلقا .
قال ( كما أباح الله تعالى السمك في الماء إلى قوله ولا يقال إن هذه الأمور مملوكة للناس ) قلت هي مملوكة بعد التناول وإباحة التناول سبب ملكها قال ( كذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك ) قلت إباحة صاحب الطعام للضيف أن يأكل سبب ملكه أن يأكل وملكه أن يأكل هو تمكنه شرعا من ذلك .
قال ( والقول بأنه يملك مشكل فإن المالك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة إلى قوله فالحق إذا أنها إباحات لا تمليكات ) قلت ما قاله من أن الملك مشكل لا إشكال فيه وتعليله بأن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف ليس كما .
قال بل لا بد فيه من سلطان الانتفاع لا [ ص: 214 ] التصرف والسلطان هو التمكن بعينه ، وقد بين هو قبل هذا أن المحجور عليهم لا يتصرفون مع أنهم يملكون فكيف يقول لا بد في الملك من سلطان التصرف هذا غير صحيح وما قاله من أنه إذا بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك إنما هو استبعاد لقول من يقول يملك ، البلع وهو بعيد كما قال ، بل الصحيح أنه يملك الطعام بالتناول حتى إذا تناول لقمة لا يجوز لغيره انتزاعها من يده فإن قال ابتلعها فقد كان سبق ملكه لها قبل البلع وإن لم يبتلعها ونبذها من يده فقد عادت إلى ملك صاحبها وجاز لغيره تناولها ؛ لأن صاحبها لم يمكنه منها إلا ليأكلها ، فلما لم يأكلها بقيت على ملك صاحبها وإن كان تناولها عادت إلى ملك صاحبها هذا هو الصحيح والله تعالى أعلم وما قال من إنها إباحات لا تمليكات ليس بصحيح ، بل الإباحات هي التمليكات أو أسباب للتمليكات .
قال ( وأما السؤال الثاني فقول المالكية إن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أو لا قولان إلى قوله ؛ لأنا نمنع الحكم فيها ) قلت قد تقدم الكلام على ذلك قال ( وأما السؤال الثالث وهو ملك الانتفاع دون المنفعة إلى قوله لمن قام بشرط الواقف ) قلت وإذا [ ص: 215 ] كانت مأذونا فيها فمن أذن فتمكن من الانتفاع فهو مالك للانتفاع قال ( لا أنها فيها ملك لغير الواقف ) قلت أما الانتفاع ففيه الملك لغير الواقف وهو من توفرت فيه شروط الوقف ، وأما عين الموقوف فالصحيح أنه لا مالك عليه لا للواقف ولا لغيره ؛ لأنه لا يتمكن أحد من الانتفاع بتلك العين ولا من التصرف فيها ولا من أخذ العوض عنها وإذ لم يكن شيء من ذلك فلا ملك إذ لا معنى للملك إلا التمكن من الانتفاع ومن أخذ العوض أو من الانتفاع خاصة .
قال ( بخلاف ما يطلق من الجامكيات إلى قوله صح أخذ العوض بها أو عنها ) قلت إنما كان ذلك ؛ لأن مقتضى الوقف إن كان سكنى الموضع الموقوف فلا يتعدى الموقوف عليه السكنى ؛ لأنه لم يسوغ له غيره وإن كان الاستغلال فالعلة مسوغة بعينها فيصح أخذ العوض عنها .
قال ( فإن ، قلت إذا اتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو الأحكام الخمسة إلى قوله ومنهم من قال إنه من خطاب الوضع وهو بعيد ) قلت ما قاله من [ ص: 216 ] إنه إباحة ليس عندي بصحيح فإن الإباحة هي حكم الله تعالى والحكم عند أهل الأصول خطاب الله تعالى وخطابه كلامه فكيف يكون الملك الذي هو صفة للمالك على ما ارتضيته أو صفة للمملوك على ما ارتضاه هو كلام الله تعالى هذا ما لا يصح بوجه أصلا فالصحيح أن مسبب الإباحة هو التمكن والإباحة هي التمكين والله أعلم .
قال ( فإن ، قلت الملك سبب الانتفاع إلى [ ص: 217 ] قوله وكفارات وغيرها ) قلت لما فسر الملك بالإباحة مسلم أنه سبب الانتفاع ، وليس الأمر كذلك ، بل الملك سبب الإباحة وهو التمكين من الانتفاع والانتفاع متعلق الملك ولا يقال في المتعلق أنه سبب المتعلق إلا على وجه التوسع في العبارات لا على المتقرر في الاصطلاح قال ( وليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب إلى قوله ، وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق ) قلت ما قاله في ذلك صحيح ، وكذلك ما قاله بعد عن nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري ما عدا قوله إن الملك هو التصرف فإنه غير صحيح على ما قرره المؤلف قبل هذا .
حاشية ابن حسين المكي المالكي
[ ص: 218 ] الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف )
الملك سبب عام يترتب على أسباب مختلفة البيع والهبة والصدقة والإرث وغير ذلك فهو غيرها وبينه وبين التصرف عموم وخصوص وجهي بحيث يجتمعان في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض فيجتمعان في البالغين الراشدين النافذين للكلمة الكاملين الأوصاف وينفرد الملك عن التصرف في الصبيان والمجانين وغيرهم من المحجور عليهم فإنهم يملكون ولا يتصرفون وينفرد التصرف عن الملك في الوصي والوكيل والحاكم وغيرهم فإنهم يتصرفون ولا ملك لهم واختلف في أن الملك صفة للمملوك أو صفة للمالك وفي أنه من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع فذهب إلى الأول منهما الأصل وإلى الثاني منهما ابن الشاط وخلاصة كلام الأصل أن الملك في اصطلاح الفقهاء حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك وأن دليل كونه حكما شرعيا أمران
( أحدهما ) الإجماع
( وثانيهما ) أنه يتبع الأسباب الشرعية وكل ما يتبعها فهو حكم شرعي قال والذي يظهر لي أن ذلك الحكم من أحد الأحكام الخمسة وهو الإباحة الخاصة في التصرفات الخاصة وأخذ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص كما تقررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الأيام هي الموجبة للفرق بين الملك وغيره من جميع الحقائق ، وأما إنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع الذي هو الإباحة والتعلق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان ، بل في الأذهان فهي أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي كذلك ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضا ويكون الملك من خطاب التكليف ؛ لأن الاصطلاح إن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة وخطاب الوضع هو نصب الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية ، وليس هذا منها ، بل هو إباحة خاصة وقول بعضهم إنه من خطاب الوضع ؛ لأنه سبب الانتفاع بعيد ضرورة أن كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من مثوبات وتعزيرات ومؤاخذات وكفارات وغيرها .
وليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتيب ألا ترى أن وجوب الظهر مع كونه مسببا على الزوال هو سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب ووجوبه سببا لتقديمه على غيره من المندوبات ومع ذلك وهو لا يسمى سببا ولا يقال إنه من خطاب الوضع ، بل الضابط للبابين أن الخطاب [ ص: 233 ] متى كان متعلقا بفعل مكلف على وجه الاقتضاء أو التخيير فهو من خطاب التكليف ومتى لم يكن كذلك وهو من أحد الأمور المتقدمة فهو من خطاب الوضع ، وقد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف ، وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق وإن معنى قولنا في العين أو المنفعة في منافع العين مع عدم رد العين أو في المنفعة مع رد العين لما قاله nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري رحمه الله في شرح التلقين من أن تحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع عدم رد العين ، بل يبذلها لغيره بعوض أو بغير عوض فهو البيع والهبة وإن ورد على المنافع مع رد العين فهو الإجارة وفروعها من المساقات والمجاعلة والقراض ونحو ذلك والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة دون الأعيان لأنها لا يملكها إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والإماتة والإحياء ونحو ذلك وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكتات ا هـ . محل الحاجة منه وإن قيد يقتضي انتفاعه بالمملوك لإخراج التصرف بالوصية والوكالة وتصرف القضاة في أموال الغائبين والمجانين فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير ملك وقيد والعوض عنه لإخراج الإباحات في الضيافات فإن الضيافة مأذون فيها .
وليست مملوكة على الصحيح ولإخراج الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من الانتفاع بهذه الأمور وقيد من حيث هو كذلك لإدخال المحجور عليهم فإنهم وإن كان لهم الملك ، وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة إلا أن الأملاك في تلك الصور بالنظر لذاتها وقطع النظر عما عرض لها من الأسباب الخارجة عنها تقتضي مكنة التصرف المذكور ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي ألا ترى أن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها مع أنها إن علم الله تعالى وجودها كانت واجبة لغيرها وإن علم الله عدمها كانت مستحيلة لغيرها ، وكذلك لإدخال الأوقاف إذا قلنا إنها على ملك الواقفين فإنهم وإن كان لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من الوقف الذي هو كالحجر في المنع من البيع إلا أن ملكهم بالنظر لذاته وقطع النظر عن ذلك المانع يجوز لهم البيع وملك العوض عنها فقد انطبق هذا الحد على جميع أفراد الملك ومنع غيرها والحق أن الضيافات ليست بتمليكات لا بالمضغ ولا بالبلع ولا بغير ذلك خلافا للشافعية .
بل هي إباحات كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله فكما لا يقال إن هذه الأمور مملوكة للناس كذلك لا يقال إن الضيافات مملوكة للضيوف وإنما الضيف أبيح له أن يأكل منها إن أراد أو يترك والقول بأنه يملك لا سيما بعد البلع مشكل فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة وبعد إن بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان لأنها فسدت عادة ولم تبق مقصودة التصرف ألبتة وقول المالكية من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا قولان قد تقدم أنها عبارة رديئة جدا أو أنها لا حقيقة لها فلا يصح إيراد النقض بها على الحد بأنه كيف يصح تصريحهم بحقيقة ملك من ملك أن يملك من حيث الجملة مع أنه لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه وذلك ؛ لأنا نمنع الحكم فيها والملك في قول المالكية وغيرهم أن بيوت المدارس والأوقاف والربط ونحوها يملك من قام به شرط واقفيها الانتفاع دون المنفعة ويرجع إلى الإذن والإباحة كما في الضيافة فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام به شرط الواقف لا إنها فيها لغير الواقف بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن الملك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف فلا جرم صح أخذ العوض بها أو عنها ا هـ . وخلاصة كلام ابن الشاط أن حد الأصل فاسد من وجوه
( أحدها ) أن الملك من أوصاف المالك لا المملوك لكنه وصف متعلق والمملوك هو متعلقه
( وثانيها ) أن الملك وإن صح أنه أمر شرعي على الجملة لا يصح أنه الإباحة التي هي حكم الله تعالى إلخ كما هو معنى سائر الأحكام الخمسة ؛ لأن الحكم [ ص: 234 ] عند أهل الأصول خطاب الله تعالى وخطابه كلامه فكيف يكون الملك الذي هو صفة المالك على ما ارتضيته أو صفة المملوك على ما ارتضاه هو كلام الله تعالى هذا ما لا يصح بوجه أصلا فالصحيح أن مسبب الإباحة هو التمكن والإباحة هي التمكين من الانتفاع والانتفاع متعلق الملك والملك سبب الإباحة فهو من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف
( وثالثها ) إن في قوله مقدر ؛ لأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع والتعلق عدمي إلخ بناء على قول المتكلمين أن النسب والإضافات السبع وهي ما عدا الجوهر والكم والكيف من المقولات العشر أمور عدمية نظرا يريد أن وجهه هو أن مسائل التعاريف اصطلاح للفلاسفة لا للمتكلمين فالواجب بناؤها على قول الفلاسفة أن النسب والإضافات السبع المذكورة أعراض موجودة فافهم
( ورابعها ) أنه ليس مقتضيا للتمكن من الانتفاع ، بل المقتضي لذلك كلام الشارع
( وخامسها ) أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك وبالعوض ، بل بأحدهما
( وسادسها ) أن المملوك مشتق من الملك فلا يعرف إلا بعد معرفته أي ؛ لأنه مصدر ومعرفة المشتق فرع معرفة ما منه الاشتقاق وهو المصدر على الصحيح فيلزم الدور أي توقف الملك على المملوك ؛ لأنه من أجزاء تعريفه وبالعكس لما ذكر نعم قد يقال المراد بالمملوك الذات فافهم والصحيح في حد الملك أنه تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو بنيابته من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض عن العين أو المنفعة هذا إن قلنا إن الضيافة ونحوها من السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة وبيوت المدارس والأوقاف والربط وكل ما فيه الإذن بالانتفاع فقط لا يملكها من سوغت له .
وأما إن قلنا إنه يملكها بالتناول وهو الصحيح ؛ لأن إباحة التناول هو تمكنه شرعا من التناول فهو سبب ملكها إذ الملك لا بد فيه من سلطان الانتفاع لا التصرف والسلطان هو التمكن بعينه فإذا تناول الضيف مثلا لقمة من الضيافة لا يجوز لغيره انتزاعها من يده فإن ابتلعها فقد كان سبق ملكه لها قبل البلع وإن لم يبتلعها ونبذها من يده فقد عادت إلى ملك صاحبها وجاز لغيره تناولها لأن صاحبها لم يمكنه منها إلا ليأكلها ، فلما لم يأكلها بقيت على ملك صاحبها والانتفاع الموقوف فيه الملك لغير الواقف وهو من توفرت فيه شروط الوقف .
وأما عين الموقوف فلا ملك عليه إلا للواقف ولا لغيره على الصحيح ؛ لأنه لا يتمكن أحد من الانتفاع بتلك العين ولا من التصرف فيها ولا من أخذ العوض عنها ، وإذا لم يكن شيء من ذلك فلا ملك إذ لا معنى للملك إلا التمكن من الانتفاع ومن أخذ العوض نعم إن أو من الانتفاع خاصة من كان مقتضى الوقف سكنى الموقوف عليه الموضع الموقوف فلا يتعدى الموقوف عليه السكنى ؛ لأنه لم يسوغ له غيره وإن كان الاستغلال فالعلة مسوغة بعينها فيصح أخذ العوض عنها فافهم فإنا حينئذ نزيد في الحد ونقول أنه يمكن الإنسان شرعا بنفسه أو بنيابته من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة ولا حاجة بنا إلى بيان صحة هذا الحد فإنه لا يخفى ذلك على المتأمل المنصف ، وقد تقدم الكلام على قول المالكية أن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أو لا قولان فلا تغفل وبالجملة فموجب الملك الانتفاع والانتفاع يكون بوجهين انتفاع يتولاه المالك بنفسه وانتفاع يتولاه النائب عنه والنائب قد يكون باستنابة المالك ، وقد يكون بغير استنابته فغير المحجور عليه يتوصل إلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته والمحجور عليه لا يتوصل إلى الانتفاع بملكه إلا بنيابته ونائبه لا يكون إلا باستنابته والانتفاع إما مع أخذ العوض أو بدونه وإما مع رد العين أو بدونه ا هـ والسيد الجرجاني قدس سره جعل الملك صفة مشتركة بين المالك والمملوك فقال في تعريفاته والملك في اصطلاح الفقهاء اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا ليتصرفه فيه وحاجزا عن تصرف غيره فيه ا هـ .
ولكن هذا الحد لا يكون جامعا إلا بأمرين الأول النعيم في قوله لتصرفه فيه بأن يقال بالانتفاع أما مع أخذ العوض أو بدونه وأما مع رد العين أو [ ص: 235 ] بدونه بنفسه أو نائبه والثاني التقييد في قوله عن تصرف غيره فيه بأن يقال بدون استنابته فتأمل ، وقال عقب الحد المذكور فالشيء يكون مملوكا ولا يكون مرفوقا ، ولكن لا يكون مرفوقا إلا ويكون مملوكا ا هـ يريد أن المملوك أعم مطلقا من المرفوق ، وقال قبل ذلك الحد والملك في إصلاح المتكلمين حالة تعرض للشيء بسبب ما يحيط به وينتقل بانتقاله كالتعميم والتقمص فإن كلا منهما حالة لشيء بسبب إحاطة العمامة برأسه والقميص ببدنه ا هـ . والله أعلم .