أما ما تفسده الجهالة فهو البياعات كما تقدم ، وكثير من الإجارات ، ومن الإجارات قسم لا يجوز تعيين الزمان فيه بل يترك مجهولا ، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها لا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا فتفسد لأن ذلك يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم ، بل مصلحته ، ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا ، وكذلك الجعالة لا يجوز أن يكون العمل فيها محددا معلوما لأن ذلك يوجب الغرر في العمل بأن لا يجد الآبق في ذلك الوقت ، ولا بذلك السفر المعلوم بل نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها ، والجهالة في هذين القسمين شرط ، وإن كانت في غيرهما مانعا ، وها هنا قاعدة شرعية تعرف بجمع الفرق ، وهي أن يكون المعنى المناسب يناسب الإثبات والنفي أو يناسب الضدين ، ويترتبان عليه في الشريعة ، وهو قليل في الفقه فإن الوصف إذا ناسب حكما نافى ضده أما اقتضاؤه لهما فبعيد كما تقدم بيانه في الجعالات والإجارات ، ومن ذلك أيضا الحجر يقتضي رد التصرفات ، وإطلاق التصرفات في حالة الحياة صونا لمال المحجور عليه على مصالحه ، وتنفذ وصاياه صونا لماله على مصالحه لأنا لو رددنا الوصايا لحصل المال للوارث ، ولم ينتفع به المحجور عليه فصار صون المال على المصالح يقتضي تنفيذ التصرفات ، ورد التصرفات ، وكذلك القرابة توجب البر بدفع المال ، وتوجب المنع من دفع المال إذا كان زكاة فيحرموا إياها ، وتعطى لغيرهم بسبب القرابة ، وكذلك أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب برهم بسد خلاتهم بالمال ، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة فصار قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب دفع المال ، ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين ، وكذلك كل معنى يوجب مصلحة أو مفسدة ، ويوجب نقيضها في محل آخر ، وباعتبار نسبة أخرى [ ص: 13 ] فإنه يوجب الضدين ، وهو ضابط جمع الفرق ، وسمي بذلك لأنه يجمع المفرقات ، وهي الأضداد فكذلك الجهالة توجب الإخلال بمصالح العقود في البياعات ، وأكثر أنواع الإجارات فكانت مانعة ، ووجودها يوجب تحصيل مصلحة عقد الجعالة حتى يبقى المجعول له على طلبه فيجد الآبق فلا يذهب عمله المتقدم مجانا فإذا قيدنا عليه العمل ، وقدرناه معلوما فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ، ولم يجد الآبق ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد
[ ص: 13 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي
( الفرق الثامن والمائتان بين قاعدة ما يمنع فيه الجهالة وبين قاعدة ما يشترط فيه الجهالة بحيث لو فقدت فيه الجهالة فسد )
اعلم أن الأصل في الشريعة أن الوصف يبعد اقتضاؤه للضدين أو النقيضين فإذا ناسب حكما نافى ضده ، وقد يناسب الوصف الإثبات والنفي أو الضدين ، ويترتبان عليه في الشريعة ، وهو ، وإن كان قليلا في الفقه إلا أنهم جعلوه قاعدة شرعية تعرف عندهم بجمع الفرق ، وضابطها أن كل معين يوجب مصلحة أو مفسدة في محل ، وباعتبار نسبة ، ويوجب نقيضها في محل آخر ، وباعتبار نسبة أخرى فإنه يوجب الضدين ، وسمي بجمع الفرق لأنه يجمع المفرقات ، وهي الأضداد ، وله نظائر منها الحجر فإنه عبارة عن صون مال المحجور عليه على مصالحه ، وهو يقتضي رد تصرفاته في حالة حياته ، وتنفيذها بوصاياه لأنا لو رددنا الوصايا [ ص: 30 ] لحصل المال للوارث ، ولم ينتفع به المحجور عليه ( ومنها ) القرابة للمكلف توجب برهم بدفع ماله لهم إذا كان غير زكاة وتوجب منعهم من دفع ماله إذا كان زكاة فيحرموا إياها ، وتعطى لغيرهم بسبب القرابة ، ومنها أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب برهم بسد خلاتهم بالمال إذا كان غير زكاة ، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة فصار قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب دفع المال ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين ، ومنها الجهالة وجودها يوجب في البياعات وأكثر أنواع الإجارات الإخلال بمصالح العقود فكانت في ذلك مانعة ، ويوجب في قسم من الإجارات ، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها .
وفي الجعالة تحصيل مصلحة عقد ذلك القسم من الإجارات وعقد الجعالة فكانت في ذلك شرطا بحيث لو فقدت فيه فسد فلا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا بل يفسد العقد بذلك لأنه يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم بل مصلحته ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا ، ولا يجوز أن يكون العمل في الجعالة محدودا معلوما لأن ذلك يوجب الغرر في العمل ، وذلك لأنا إذا قيدنا عليه العمل ، وقدرناه معلوما فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ، ولم يجد الآبق في ذلك الوقت ، ولا بذلك السفر المعلوم ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد فلذا كان نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها ، وبالجملة فالجعالة في هذين القسمين شرط ، وإن كانت في غيرهما مانعا قال التسولي عند قول ابن عاصم في فصل ولا يحد بزمان لائق ما نصه أي لا يجوز أن يؤجل عمل الجعل بأجل ، ولا يقدر بزمن كيوم أو عشرة مثلا لأنه لا ينقضي الأجل قبل تمام العمل فيذهب سعيه باطلا قال خليل في مختصره بلا تقدير زمن إلا بشرط ترك متى شاء فيجوز حينئذ ضرب الأجل فيه كما مر ، وذلك لأنه مع عدم الشرط دخل على التمام فقوي الغرر بسبب ذلك مع ضرب الأجل بخلاف ما إذا شرط الترك متى شاء مع الأجل فقد دخل على التخيير فخف بذلك الغرر .
وقال فيما مر فالجعالة تفارق الإجارة من وجوه ( فمنها ) إن ضرب الأجل يفسدها إلا أن يشترط المجهول الترك متى شاء بخلاف الإجارة فلا تصح بدون أجل ، ومنها أنها عقد غير لازم بخلاف الإجارة فإنها تلزم بالعقد ( ومنها ) أنه لا شيء له إلا بتمام العمل بخلاف الإجارة فإن له فيها بحساب ما عمل ا هـ .
المحتاج إليه منه .
وقال عند قوله في فصل أحكام الإجارة : [ ص: 31 ]
العمل المعلوم من تعيينه يجوز فيه الأجر مع تبيينه وللأجير أجرة مكمله إن تم أو بقدر ما قد عمله
إن العمل المعلوم من أجل تعين حده بالعمل أو بالأجل وذكر صفته ( فالأول ) كقوله أؤاجرك على صبغ هذا الثوب أو دبغ هذا الجلد أو خياطة هذا الثوب ، وبين له صفة الصبغ والدبغ والخياطة ( والثاني ) كقوله أؤاجرك على بناء يوم أو خياطة شهر أو حراثة يومين ونحو ذلك فالعمل الذي هو الدبغ والصبغ ونحوهما لا بد أن يكون معلوما لهما ، ولا بد أيضا أن يكون محدودا إما بالفراغ منه كخياطة ثوب وطحن إردب ، وإما بضرب أجل كخياطة يوم أو صبغه أو دبغه أو طحنه فالمصنوعات إما أن تحدد بالفراغ أو بالأجل وغيرها كالرعاية والخدمة المعروفة ونحوهما يحد بضرب الأجل لا غير فإن جمع بين الأجل والعمل كقوله خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم أو أكتري منك دابتك لتركبها إلى محل كذا في هذا اليوم أو أؤاجرك لتوصل الكتاب لمحل كذا في هذا اليوم أو الشهر بدرهم فهل تفسد مطلقا أو إنما تفسد إن كان الأجل مساويا للعمل أو أنقص منه لا إن كان الأجل أكثر من العمل فلا تفسد فيه خلاف خليل ، وهل تفسد إن جمعهما ، وتساوي أو مطلقا خلاف ، ومن ذلك الاستئجار على بيع ثوب مثلا لكن لما لم يكن البيع في مقدور الأجير كان جعالة إن حده بالعمل ، وهو تمام العمل وإجارة إن حده بالزمن ، ويستحق أجره بمضي الزمن حينئذ ، وإن لم يبع ا هـ .