[ ص: 130 ] يختلف إثم المفاسد باختلافها في الصغر والكبر ، وباختلاف ما تفوته من المنافع والمصالح ،
فيختلف الإثم في قطع الأعضاء وقتل النفوس وإزالة منافع الأعضاء باختلاف المنافع ، فليس إثم من قطع الخنصر والبنصر من الرجل كإثم من قطع الخنصر والبنصر من اليد ، لما فوته من منافعها الدينية والدنيوية ، وسواء قطع ذلك من نفسه أو من غيره ، وليس الإثم في قطع الأذن كالإثم في قطع اللسان ، لما سنذكره من منافع اللسان إن شاء الله تعالى ، وليس من قتل فاسقا ظالما من فساق المسلمين بمثابة من قتل إماما عدلا ، أو حاكما مقسطا ، أو وليا منصفا ، لما فوته على المسلمين من العدل والإنصاف . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : {
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } لما عمت المفسدة في قتل نفس جعل إثمها كإثم من قتل الناس جميعا لما فوته على الناس من مصالح ولما عمت المفسدة في إنقاذ ولاة العدل والإقساط والإنصاف من المهالك ، جعل أجر منقذها كأجر منقذ الناس من أسباب الهلاك جميعا لعموم ما سعى فيه من المصالح ، وكذلك جناية الإنسان على أعضاء نفسه يتفاوت إثمها بتفاوت منافع ما جنى عليه ، وبتفاوت ما فوته على الناس من عدله وإقساطه وبره وإنصافه ونصرته للدين ، وليس لأحد أن يتلف ذلك من نفسه ، لأن الحق في ذلك كله مشترك بينه وبين ربه ، وليس قطع العالم أو الحاكم أو المفتي أو الإمام الأعظم لسان نفسه كقطع من لا ينتفع بلسانه .
وكذلك قطع البطل الشديد النكاية في الجهاد يد نفسه أو رجل نفسه أعظم من قطع الضعيف
[ ص: 131 ] الذي لا أثر له في الجهاد يد نفسه أو رجل نفسه ، ولا يلزم من تساوي الأعضاء في الأبدال تساوي تفويتها في الآثام .
وكذلك فقء العينين أشد إثما من صلم الأذنين ، وكذلك قطع الرجلين أعظم وزرا من قطع أصابعهما ، وكذلك قطع الإبهام والسبابة من إحدى اليدين أعظم وزرا من قطع الخنصر والبنصر منهما . والمدار في هذا كله على رتب تفويت المصالح وتحقيق المفاسد . فكل عضو كانت منفعته أتم كانت الجناية عليه أعظم وزرا ، فليست الجناية على العقل واللسان كالجناية على الخناصر والآذان .