[ ص: 4 ] فصل في بيان
جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون
الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون . وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما ، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما ، وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به ; فإن عمال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة وإنما يعملون بناء على حسن الظنون ، وهم مع ذلك يخافون ألا يقبل منهم ما يعملون ، وقد جاء التنزيل بذلك في قوله : {
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } ، فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون ، وإنما اعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها ; فإن التجار يسافرون على ظن أنهم يستعملون بما به يرتفقون ، والأكارون يحرثون ويزرعون بناء على أنهم مستغلون ، والجمالون والبغالون يتصدرون للكراء لعلهم يستأجرون ، والملوك يجندون الأجناد ويحصنون البلاد بناء على أنهم بذلك ينتصرون .
وكذلك يأخذ الأجناد الحذر والأسلحة على ظن أنهم يغلبون ويسلمون ، والشفعاء يشفعون على ظن أنهم يشفعون والعلماء يشتغلون بالعلوم على ظن أنهم ينجحون ويتميزون .
وكذلك الناظرون في الأدلة والمجتهدون في تعرف الأحكام ، يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون ، والمرضى يتداوون لعلهم يشفون ويبرءون . ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب ، فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفا من ندور وكذب الظنون ، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون .