النوع الرابع والعشرون :
الأحوال الناشئة عن معرفة الصفات .
اعلم أن الخوف ناشئ عن معرفة شدة النقمة ، والرجاء ناشئ عن معرفة سعة الرحمة ، والتوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض والرفع .
والمحبة تنشأ تارة عن معرفة الإحسان والإنعام ، وتارة عن معرفة الجلال والجمال ، والمهابة ناشئة عن معرفة كمال الذات والصفات ، وكل واحدة من هذه الأحوال حاثة على الطاعة التي تناسبها ، فالخوف حاث على ترك المعاصي والمخالفات ، والرجاء حاث على الإكثار من المندوبات
[ ص: 207 ] وعلى كثير من الواجبات لما يرجى على ذلك من المثوبات ، والتوكل حاث على الإجمال في الطلب والدعاء ، والابتهال زاجر عن الوقوف مع الأسباب ، والمحبة حاثة على طاعة مثل طاعة الهائبين المجلين المعظمين المستحيين ، وهو أكمل من طاعة المحبين ، ولا يمكن اكتساب هذه الأحوال في العادة إلا باستحضار المعارف التي هي منشأ لهذه الأحوال .
النوع الخامس والعشرون ; القصود والنيات والعزوم على الطاعات فيما يستقبل من الأوقات ، فيجب على المكلف أن يعزم على الطاعات قبل وجوبها ووجوب أسبابها ، فإذا حضرت العبادات وجبت فيها القصود إلى اكتسابها والنية بالتقرب بها إلى رب السموات .
واعلم أن
الإيمان والنيات والإخلاص ينقسم إلى حقيقي وحكمي ، فالإيمان الحكمي شرط في العبادات من أولها إلى آخرها ، والنية الحقيقية مشروطة في أول العبادات دون استمرارها ، والحكمية كافية في استمرارها ، وكذلك إخلاص العبادة شرط في أولها ، والحكمي كاف في دوامها ، ولو وجب الإيمان الحقيقي في جميع الأوقات ، والنية الحقيقية في استمرار العبادات لحصلت المشقة في استحضار الإيمان والنيات ، ولم يشترط الإيمان الحقيقي في ابتداء العبادة لأن استحضار النية شاق عسير ولأن نية القربة تتضمن الإيمان ، والإيمان لا يتضمن نية القربات ،
والغرض من النيات تمييز العبادات عن العادات ، أو تمييز رتب العبادات أثناء تمييز العبادات عن العادات وله أمثلة : أحدها : الغسل فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث ، وغيرها يفعل لأغراض العباد من التبرد والتنظيف والاستحمام والمداواة وإزالات الأوضار والأقذار ، فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد .
[ ص: 208 ] المثال الثاني : دفع الأموال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو وديعة ، وبين أن يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات والكفارات ، فلما تردد بين هذه الأغراض ، وجب أن تميز النية لما يفعل لله عما يفعل لغير الله .
المثال الثالث : الإمساك عن المفطرات تارة يفعل لغرض الإمساك عن المفطرات وتارة يفعل قربة إلى رب الأرضين والسموات ، فوجب فيه النية لتصرفه عن أغراض العباد إلى التقرب إلى المعبود .
المثال الرابع : حضور المساجد قد يكون للصلوات أو الراحات أو للقربة بالحضور فيها زيارة للرب سبحانه وتعالى .
لما تردد بين هذه الجهات وجب أن يميز الحضور في المسجد زيارة لرب الأرباب عما يفعل لغير ذلك من الأغراض .
المثال الخامس : الضحايا والهدايا لما كان ذبح الذبائح في الغالب لغير الله من ضيافة الضيفان وتغذية الأبدان ، ونادر أحواله أن يفعل تقربا إلى الملك الديان شرطت فيه النية تمييزا لذبح القربة عن الذبح للاقتيات والضيافات ، لأن تطهر الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه من الأحداث ، تارة يكون لله وتارة يكون لغير الله فتميزه الطهارة الواقعة لله عن الطهارة الواقعة لغيره .
المثال السادس : الحج لما كانت أفعاله مرددة بين العبادات والعادات وجب فيه النية تمييزا للعبادات عن العادات .
وأما مثال تمييز رتب العبادات فكالصلاة تنقسم إلى فرض ونفل ، والنفل ينقسم إلى راتب وغير راتب ، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور ، وغير المنذور ينقسم إلى ظهر وعصر ومغرب وعشاء وصبح ، وإلى قضاء وأداء فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية وكذلك تميز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد .
وكذلك في الفرض تميز الظهر عن العصر ، والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع ، وكذلك في العبادة
[ ص: 209 ] المالية تميز الصدقة الواجبة عن النافلة ، والزكاة عن المنذورة والنافلة .
وكذلك يميز صوم النذر عن صوم النفل ، وصوم الكفارة عنهما ، وصوم رمضان عما سواه ، ويميز الحج عن العمرة تميزا لبعض راتب العبادات عن بعض .
ولا يكفيه مجرد نية القربة دون تعيين الرتبة ، فإن
أطلق نية الصوم والصلاة حمل على أقلها ، لأنه لم ينو التقرب بما زاد على رتبتها ، فإذا نوى الراتبة لم يكفه ذلك حتى يعينها بتعين الصلاة التي شرعت لها بأن يضيفها إلى الصلاة التابعة لها ، وإذا
نوى العيد أو الكسوف أو الاستسقاء فلا بد من إضافتها إلى أسبابها لتمييز رتبتها عن رتب الرواتب ، وإن نوى الفرائض فلا بد من تمييزها بالإضافة إلى أوقاتها وأسبابها ، وليست الأوقات والأسباب قربة ولا صفة للقربة وإنما تذكر في النية لتبيين المرتبة ، وإن
نوى الكفارة ولم يذكر سببها أجزأته لأن رتبتها متساوية لا تفاوت فيها ، إذ العتق في كفارة القتل مثل العتق في كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان .
وقد خالف
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رحمه الله في ذلك وجعل إضافة الكفارات إلى أسبابها كإضافة الصلاة إلى أوقاتها ، والأول أوجه لما ذكرنا من تساوي الرتب ، وليست الأوقات والأسباب من العبادات حتى يجب ذكرها لا سيما أسباب الكفارات فإن معظمها جنايات ، فإذا لم تكن الأسباب قربة ولا دالة على تفاوت رتبة فلا حاجة إلى قصدها لأن العتق بنية الكفارة قد يميز عن العتق المندوب برتبته ، بخلاف رتب الصلاة فإنها مختلفة ، ولذلك شرع بعضها ما لم يشرع في بعض كالجهر والإسرار والتطويل والتقصير ، ولو تساوت مقاصد الصلاة تساوت مقاصد العتق لما اختلفت أحكام الصلاة وأوصافها ، وعندي وقفة في صلاتي العيدين لأنهما مستويان في جميع الصفات فينبغي أن تلحق بالكفارات فيكفيه أن ينوي صلاة العيدين من غير تعرض لصلاة فطر أو أضحى ، بخلاف صلاة الكسوف والخسوف فإنهما يختلفان بالجهر والإسرار ، فإن كانت العبادة غير ملتبسة بالعادة كالإيمان والتعظيم والإجلال والخوف والرجاء والتوكل
[ ص: 210 ] والحياء والمحبة والمهابة ، فهذه متعلقة بالله عز وجل قربة في أنفسها متميزة لله بصورتها لا تفتقر إلى قصد تمييزها وبجعلها قربة متميزة ، فلا حاجة في هذا النوع إلى نية تصرفه إلى الله عز وجل وكذلك التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير والثناء على الله عز وجل بما لا يشارك فيه والأذان وقراءة القرآن فإنه لا يحتاج إلى نية ، إذ لا تردد بين العبادة والعادة ولا بين رتب العبادة كما ذكرناه ، ولا حاجة إلى التعليل بأن النية لو افتقرت إلى نية لأدى ذلك إلى التسلسل لأن انصرافها بصورتها إلى الرب سبحانه وتعالى مميز لها فلا تحتاج إلى مميز ، ولأن النية لا رتب لها في نفسها ، ومثل هذا نقول في الكلام إن كان صريحا لم يفتقر إلى نية لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه ، وإن كان كناية افتقر إلى نية مميزة لتردده ، وكذلك نقول في المعاملات إن امتاز المقصود عن غيره فلا حاجة إلى ما يميزه ، فمن استأجر عمامة أو ثوبا أو قدوما أو سيفا أو بساطا لم يحتج إلى ذكر منفعة لأن صورته منصرفة إلى منفعته مميزة لها فلا حاجة إلى مميز ، وإن كانت المنفعة مرددة كالدابة تكترى للعمل والركوب .
والأرض تكترى للزرع والغرس والبناء فلا بد من تمييز المنفعة باللفظ ، وكذلك إن كان في البلد نقد غالب حمل العقد عليه لامتيازه بغلبته وإن كان في البلد نقود مختلفة لا غالب فيها فلا بد من تمييز باللفظ ، وكذلك الحقوق المتعينة لا يفتقر أداؤها إلى نية بل تصح وتبرى من غير نية لتعينها لمستحقها ، وإن ترددت مثل أن يقبض المدين مالا لرب الدين من جنس حقه فإنه مردد بين الوديعة والهبة والعارية والإباحة وقضاء الدين فلا بد من نية تميز إقباض الدين عن سائر أنواع الإقباض .
وكذلك كل
من جاز له الشراء لنفسه ولغيره فإنه لا ينصرف إلى غيره إلا بنية تميزه عن الشراء لنفسه .
وكذلك لو ملك التصرف بأسباب مختلفة كالوكيل والوصي فإنه يملك الشراء لنفسه ولغيره بنية فلو أطلق الشراء عن النية لانصرف إلى نفسه لأنه الغالب من أفعاله ، ولا ينصرف إلى يتيمه إلا بنية وليس المقصود من
[ ص: 211 ] نية التصرف التقرب إلى المستحق ، بخلاف نية العبادات فإن القصد بتمييزها التقرب إلى المعبود بذلك المقصود ، وكذلك ما تشترط فيه النية من التصرفات ليس الغرض منها إلا مجرد التمييز دون التقرب .
فإن قيل :
لم أثيب ناوي القربة على مجرد نيته من غير عمل ولا يثاب على أكثر الأعمال إلا إذا نواه ؟ فالجواب : ما ذكرناه من أن النية منصرفة إلى الله تعالى بنفسها ، والفعل المردد بين العادة والعبادة غير منصرف إلى الله فلذلك لا يثاب عليه .
فإذا قيل : لم أثيب على النية ثواب حسنة واحدة ، وإن اتصل بها الفعل أثيب بعشر مع كون النية متصلة إلى الله بنفسها ؟ فالجواب : أن الفعل المنوي ، به تتحقق المصالح المطلوبة من العبادات فلذلك كان أجره أعظم وثوابه أوفر .