فصل في
مناسبة العلل ; لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصالحها ، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءا لمفاسدها ، والنجاسات مناسبة لوجوب اجتنابها ، ولا مناسبة بين طهارة الأحداث وأسبابها ، إذ كيف يناسب خروج المني من الفرج أو إيلاج أحد الفرجين في الآخر أو خروج الحيض والنفاس لغسل جميع أعضاء البدن ، ولا مناسبة بين المس واللمس وخروج الخارج من إحدى السبيلين لإيجاب تطهير الأربعة مع العفو عن نجاسة محل الخروج ، ولا للمسح على العمائم والعصائب والجبائر والخفاف ، وكذلك لا مناسبة ; لأسباب الحدث الأصغر والأكبر لإيجاب مسح الوجه واليدين بالتراب ، بل ذلك تعبد من رب الأرباب ومالك الرقاب الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وما أشبه هذه الأسباب بالتوقيت .
والأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها فإذا تنجس الماء القليل ثم بلغ قلتين زالت نجاسته ; لزوال علتها ، وهي القلة ، ولو تغير الكثير ثم أزيل تغيره طهر ; لزوال علة نجاسته ، وهي التغير ، فإذا انقلب العصير خمرا زالت طهارته ، فإذا انقلب الخمر خلا زالت نجاستها ، وكذلك الصبا والسفه
[ ص: 6 ] والإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكاليف ونفوذ التصرف ، فإذا زالت حصل التكليف ، ونفذ التصرف ، وكلما عاد النوم أو الإغماء أو الجنون زال التكليف بزوال علته ، وكذلك يثبت التصرف بحصول الملك ويزول بزواله ، وكذلك أحكام الحدث الأصغر والأكبر ، وكذلك حكم السهو والغفلة والذكر والنسيان ، وكذلك وجوب العصمة بالإيمان ، وزوالها بالكفر ، وكذلك تزول ولاية الأب والوصي والحاكم بفسوقهم ، فإن عادوا إلى العدالة عاد الأب إلى ولايته دون الوصي والحاكم ; لأن فسوق الأب مانع ، وفسوق الوصي والحاكم قاطع .
وكذلك موانع ولاية النكاح في حق الأولياء ترفع الولاية بزوالها وتعود بارتفاعها ، وقد شرع الرمل في الطواف لإيهام المشركين قوة المؤمنين ، وقد زال ذلك والرمل مشروع إلى يوم الدين .
ومثل هذا لا يقاس عليه ; لأن القياس فرع لفهم المعنى ، ويجوز أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع مع زوال السبب تذكيرا لنعمة الأمن بعد الخوف لنشكر عليها ، فقد أمرنا الله بذكر نعمه في غير موضع من كتابه وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها .