[ ص: 27 ] فصل في
بيان جلب المصالح ودرء المفاسد على الظنون لما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة ; لأن كذبها نادر ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها النادر ، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه ، ولا يجوز العمل بكل ظن ، والظنون المعتبرة أقسام .
أحدها : ظن في أدنى الرتب .
والثاني : ظن في أعلاها ، والثالث ظنون متوسطات .
فإن قيل : لم ثبتت أحكام الشرع بالظنون المستفادة من أخبار الآحاد ولم ثبتت الحقوق عند الحكام بمثل ذلك ؟ بل شرط في أكثرها العدد والذكورة وجعلت في رتب متفاوتة فأعلاها ما شرط فيه أربع شهادات وأدناها ما شرط فيه شاهد واحد كالشهادة على هلال رمضان وفوقه ؟ ومن
ادعى بحد القذف فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على جلده ، وإسقاط عدالته ، والعزل عن ولايته التي يجب عليه المضي فيها .
ومن
ادعى على الولي المجبر أنه زوج ابنته فلا يحل له النكول كي لا يكون عونا على تسليم ابنته إلى من يزني بها ، وكذلك ولي اليتيم حيث تشرع اليمين في حقه في التصرفات المالية لا يجوز له النكول كي لا يكون ذلك عونا على أخذ أموال اليتامى ظلما ، ويلحق بذلك إذا
لاعن الرجل امرأته كاذبا ولا يحل لها النكول عن اللعان ، كي لا يكون عونا على جلدها
[ ص: 28 ] أو رجمها وفضيحة أهلها ، وأما يمين المدعي فإن كانت كاذبة لم تحل فضلا عن أن تجب ، وإن كانت صادقة فللحق المدعي حالان .
أحدهما : أن يكون مما يباح بالإباحة ، فالأولى بالمدعي إذا نكل أن يبيح الحق أو يبرأ منه دفعا لمفسدة إضرار خصمه على الباطل .
الحال الثانية : أن يكون الحق مما لا يباح بالإباحة ، ويعلم المدعي أن الحق يؤخذ منه إذا نكل عن اليمين ، فيلزمه أن يحلف حفظا لما يحرم بذله وله أمثلة .
أحدها : أن
تدعي الزوجة البينونة فتعرض اليمين على الزوج فينكر وينكل ، فيلزمها الحلف حفظا لبضعها من الزنا وتوابعه من الخلوة وغيرها ، فإن نكلت عن اليمين فسلمت إليه فراودها عن نفسها لزمها منعه بالتدرج إن قدرت ، فإن لم تقدر عليه وقدرت على قتله في أول الأمر لزمها ذلك .
المثال الثاني : أن
تدعي الأمة أن سيدها أعتقها فينكر وينكل فيلزمها الحلف حفظا لبضعها ، ولما يتعلق بحريتها من حقوق الله وحقوق عباده .
المثال الثالث : أن
يدعي العبد أن سيده أعتقه فينكر وينكل فيلزم العبد الحلف حفظا لحريته ; ولما يتعلق بها من حقوق الله ، وحقوق عباده كالجمعة والجهاد وغير ذلك .
المثال الرابع : أن
يدعي الجاني عفو الولي فينكر وينكل فيلزم الجاني الحلف حفظا لنفسه أو لأطرافه .
المثال الخامس : أن
يدعي القاذف عفو المقذوف فينكر وينكل فيلزم
[ ص: 29 ] المقذوف الحلف حفظا لجسده من ثمانين جلدة ، ولو
نكل الولي عن أيمان القسامة فإن أوجبنا بها القصاص وجب اليمين بها وإلا فلا .
فإن قيل : هل يأمر الحاكم من عليه اليمين بالحلف ، أم يعرضه عليه من غير طلب ؟ قلنا : بل يعرضه عليه من غير طلب ; لأنه لا يدري أصادق هو أم كاذب ، ولو أمره وقال له احلف فلا بأس بذلك عندي بناء على الظاهر ، فإن الشرع لا يعرض اليمين إلا على من ظهر صدقه وترجح جانبه .
وقد جوز
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله لمن باع عبدا كان ملكه إذا خاصمه المشتري في قدم عيب يمكن حدوثه ، أن يحلف أنه باعه وما به عيب بناء على أن الأصل عدم حدوث العيب في الزمن الماضي .
فإن قيل
هل يجوز للمدعي مطالبة المدعى عليه باليمين مع علمه بكذبه فيها وفجوره ؟ والقاعدة تحريم طلب ما لا يحل ، ولا سيما هذه اليمين الموجبة لغضب الله ، إذ صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36280من حلف يمينا كاذبا يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } .
قلنا : يجوز ذلك استثناء من قاعدة تحريم طلب ما لا يحل الإقدام عليه لوجهين : أحدهما : أنا لو لم نجوز ذلك لبطلت فائدة الأيمان وضاعت بذلك حقوق كثيرة .
الوجه الثاني : أن ذلك لو حرم لجاز للحاكم أن يأذن له في تحليف خصمه ; لأنه مصادق أن خصمه كاذب في إنكاره ويمينه جميعا ، ولا يجوز للحاكم أن يأذن ; لأحد في طلب ما اعترف بأنه معصية فيكون هذا مستثنى ،
[ ص: 30 ] كما جعلت اليمين على نية المستحلف من استثناء قاعدة كون اليمين على نية الحالفين ، وكون مقاصد الألفاظ على نية اللافظين ، والشرع يستثني من القواعد ما لا تداني مصلحته هذه المصلحة العامة ، فما الظن بهذه المصلحة ؟ .