( فائدة ) إن قيل
كيف جعلتم القول قول المدعى عليه مع أن كذب كل واحد منهما ممكن ؟ قلنا : جعلنا القول قوله لظهور صدقه فإن الأصل براءة ذمته من الحقوق ، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات ، وبراءته من الانتساب إلى شخص معين ، ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها ، وكذلك الأصل عدم إسقاط ما ثبت للمدعي من الحقوق وعدم نقلها .
فيدخل في هذا جميع العقود والتصرفات حتى الكفر والإيمان ،
[ ص: 33 ] وكذلك الظاهر أن ما في يده مختص به فجعلنا عليه لرجحان جانبه بما ذكرناه فقوينا الظن المستند إلى ما ذكرناه بالظن المستفاد من اليمين ، فإن نكل زال الظن المستفاد من براءة ذمته وجسده ويده ; لأن الطبع وازع عن النكول الموجب لحلف المدعي بما يضر الإنسان في ذمته وجسده ويده فرجح بذلك جانب المدعي فعرضت اليمين عليه ليحصل لنا الظن المستفاد من النكول ، وقد جعل بعض العلماء الظن المستفاد من النكول موجب للحكم لقوته وشدة ظهوره ، فإذا قامت البينة العادلة قدمت على ذلك ; لأن الظن المستفاد منها أقوى وأظهر من الظن المستفاد من تحليف أحد الخصمين .
فإن قيل : قد أمر الأئمة والحكام بالعدل ، وهو التسوية بين المستحقين والمتخاصمين وقد فاوتم بينهم فقدمتم قول المدعى عليه ؟ قلنا : أما الحاكم فيسوي بين الخصوم من وجهين .
أحدهما التسوية بينهم في الإقبال والإعراض والنظر والمجلس .
الوجه الثاني : التسوية بينهم في العمل بالظنون فيجعل القول قول كل مدع مع يمينه إلا ما استثناه الشرع كالقسامة واللعان ، فيسوي فيه بين الأزواج ، وكذلك يسوي بين النساء في درء الحدود باللعان ، وكذلك يسوي بين الخصوم في تحليف كل مدع بعد النكول ، وكذلك إذا تناكلا ولم يحلف واحد منهما فيسوي بينهما في صرفهما .
وأما الإمام فيلزمه مثل ما لزم الحاكم من ذلك ، ويلزمه أن يقدم الضرورات على الحاجات في حق جميع الناس .
وأن يسوي بينهم في تقديم أضرهم فأضرهم وأمسهم حاجة فأمسهم ، والتسوية بينهم ليست من مقادير ما يدفع إليهم الإمام ، بل التسوية بينهم أن يدفع إلى كل واحد منهم ما يدفع به
[ ص: 34 ] حاجته من غير نظر إلى تفاوت مقاديره فيتساووا في اندفاع الحاجات ، وكذلك يسوي بين الناس في نصب القضاة والولاة ودفع المضرات ، ولا يخلي كل قطر من الولاة والحكام ، ولا يخلي الثغور من كفايتها من الكراع والسلاح والأجناد الذين يرجى من مثلهم كف الفساد ودرء الكفار وعرامة الفجار ، إلى غير ذلك مما يتصرف به الأئمة .
وإذا قسم الإمام الأموال فليقدم الأفضل فالأفضل منهم في تسليم نصيبه إليه كي لا تنكسر قلوب الفضلاء بتأخيرهم ، إلا أن يكون المفضول أعظم ضرورة وأمس حاجة فيبدأ به قبل الفاضل ; لأن الفاضل إذا عرف ضرورة المضطر رق له ، وهان عليه تقديمه .