إذا
اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة ، فإن أمكن تحصيلها حصلناها ، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل ، لقوله تعالى : {
فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } .
وقوله : {
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } ، وقوله : {
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } ، فإذا استوت مع تعذر الجمع تخيرنا ، وقد يقرع ، وقد يختلف في التساوي والتفاوت ، ولا فرق في ذلك بين المصالح الواجبات والمندوبات ، ولبيان الأفضل وتقديم الفاضل على المفضول أمثلة : أحدها :
تقديم العرفان بالله وصفاته على الإيمان بتلك ، ويقوم الاعتقاد في حق العامة مقام العرفان ، ويقوم الإيمان المبني على العرفان لتعذر وصول العامة إلى العرفان وما يتبعه من الإيمان ، وعلى ذلك الإيمان بالرسل وبما جاءوا به من الشرائع والأخبار وعذاب الفجار وثواب الأبرار ، والعرفان متقدم على ذلك لشرفه في نفسه لتعلقه بالديان ، ولأنه شرط في صحة عبادة الرحمن ، وهو أيضا مقدم بالزمان إلا على النص الدال عليه المفضي إليه ، وليس يقدم النظر إلا بالزمان ، وإنما تأخر
[ ص: 63 ] الإيمان بالكتب والرسل ، إذ لا يمكن أن يؤمن بالرسول والرسالة من لا يعرف المرسل ، فقد تأخر لقصور رتبته عن رتبة الإيمان . والعرفان لكونه تعلق بمخلوق ، ولتعذر تحصيله قبل تحصيل الاعتقاد والإيمان والعرفان ،
ولفضل الإيمان تأخرت الواجبات عند ابتداء الإسلام ترغيبا فيه ، فإنها لو وجبت في الابتداء لنفروا من الإيمان لثقل تكاليفه .
ولذلك أمثلة أحدها . أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم .
المثال الثاني : الصيام لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا من الدخول في الإسلام .
المثال الثالث : تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيرا لغلبة الضنة بالأموال .
المثال الرابع : الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام ; لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين .
المثال الخامس : القتال في الشهر الحرام لو أجل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك ، وكذلك القتال في البلد الحرام .
المثال السادس : القصر على أربع نسوة ، لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه ، وكذلك القصر على ثلاث طلقات ; فتأخرت هذه الواجبات تأليفا على الإسلام الذي هو أفضل من كل واجب ، ومصلحته تربو على جميع المصالح .
ولمثل هذا قر الشرع من أسلم منهم على الأنكحة المعقودة على خلاف
[ ص: 64 ] شرائط الإسلام ، وكذلك أسقط عن المجانين ما يتلفونه من أنفس المؤمنين وأموالهم لأنه لو ألزمهم بذلك لنفروا من الدخول في الإسلام .
وكذلك بني على الإسلام غفران جميع الذنوب لأن عهدها لو بقيت بعد الإسلام لنفروا ، وكذلك قال جماعة قد زنوا فأكثروا من الزنا ومن غيره من الكبائر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . إن ما تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ؟ فأنزل الله تعالى : {
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية ، وقال في غيرهم : {
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ، وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام .
وإطعام الطعام ، وصلة الأرحام ، والصدق والعفاف ، لأن ذلك كان ملائما لطباعهم حاثا على الدخول في الإسلام ، وكذلك ألف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام بما دفعه لهم من الأموال ، وامتنع من قتل جماعة من المنافقين قد عرف بنفاقهم خوفا أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام ، فهذه كلها مصالح أخرت ، لما في تقديمها من المفاسد المذكورة .