( فائدة )
قدم الأولياء والأصفياء مصالح الآخرة على مصالح هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت المصلحتين ودرءوا مفاسد الآخرة بالتزام مفاسد بعض هذه الدار لمعرفتهم بتفاوت الرتبتين .
وأما أصفياء الأصفياء فإنهم عرفوا أن لذات المعارف والأحوال أشرف اللذات فقدموها على لذات الدارين . ولو عرف الناس كلهم من ذلك ما عرفوه ; لكانوا أمثالهم فنصبوا ليستريحوا واغتربوا ليقتربوا . فمنهم من تحضره المعارف بغير تكلف ، فينشأ عنها الأحوال اللائقة بها بغير تصنع ولا تخلق ، ومنهم من يستذكر المعارف لينشأ عنها أحوالها ، وشتان ما بين الفريقين . وقد يتكلف المحروم استحضار المعارف فلا تحضره ، فسبحان من عرف نفسه لهؤلاء من غير تعب ولا نصب ولا استدلال ولا وصب ، بل جاد عليهم وسقاهم خالص وبله وصافي فضله فشغلهم به عما سواه فلا هم لهم سواه ولا مؤنس لهم غيره ولا معتمد لهم إلا عليه ، لعلمهم أنه لا ملجأ لهم إلا إليه ; فرضوا بقضائه وصبروا على بلائه وشكروا لنعمائه ، يتسع عليهم ما يضيق على الناس ويضيق عليهم ما يتسع للناس ، أدبهم القرآن معلمهم الرحمن وجليسهم الديان وسرابيلهم الإذعان ، قد انقطعوا عن الإخوان وتغربوا عن الأوطان ، بكاؤهم طويل وفرحهم قليل يردون كل حين موردا لم يتوهموه ، وينزلون منزلا لم يفهموه ، ويشاهدون ما لم يعرفوه ، لا يعرف منازلهم عارف ، ولا يصف أحوالهم واصف ، إلا من نازلها ولابسها ، قد اتصفوا بأخلاق القرآن على حسب الإمكان ، وتلك الأخلاق موجبة لرضا الرحمن وسكنى الجنان في الرغد والأمان ، مع النظر إلى الديان .