المثال الثالث والعشرون : لا يقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحروب والقتال مع النجدة والشجاعة وحسن السيرة في الاتباع ، فإن استووا فإن كانت الجهة واحدة تخير الإمام ، وله أن يقرع بينهم كي لا يجد بعضهم على الإمام بتقديم غيره عليه ، وإن تعددت الجهات صرف بكل واحد منهم إلى الجهة التي تليق به .
[ ص: 76 ] والضابط في الولايات كلها أنا لا نقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها ، فيقدم في الأقوم بأركانها وشرائطها ، على الأقوم بسننها وآدابها ، فيقدم في الإقامة الفقيه على القارئ ، والأفقه على الأقرأ ; لأن الفقيه أعرف باختلال الأركان والشرائط ، وبما يطرأ على الصلاة من المفسدات ، وكذلك يقدم الورع على غيره ، لأن ورعه يحثه على إكمال الشرائط والسنن والأركان ، ويكون أقوم إذا بمصلحة الصلاة . وقدم بعض الأصحاب بنظافة الثياب ، لأن الغالب أن المتنزه من الأقذار التي ليست بأنجاس أنه يتنزه عن النجاسات ; فيكون أقوم بشرط الصلاة .
وكذلك يقدم البصير على الأعمى عند بعضهم لأنه يرى من النجاسات ما لا يراه الأعمى ; فيكون أشد تحرزا من النجاسات التي اجتنابها شرط في صحة الصلاة .
وأما غض الأعمى عن المحرمات فليس غضه شرطا في صحة الصلاة ، وأما
غسل الموتى وتكفينهم وحملهم ودفنهم فيقدم فيه الأقارب لأن حنوهم على ميتهم يحملهم على أكمل القيام بمقاصد هذه الواجبات وكذلك يقدم الآباء على الأولاد ، لأن حنو الآباء أكمل من حنو الأولاد .
وكذلك
يقدم القريب في الصلاة على الأموات على جميع أهل الولايات ; لأن من الصلاة الشفاعة للميت ، والقريب لفرط شفقته وشدة حزنه عليه يبالغ في الدعاء له ما لا يفعله الأجانب .
وكذلك
تقدم الأمهات على الآباء في الحضانة لمعرفتهن بها وفرط حنوهن على الأطفال ، وإذا
استوى النساء في درجات الحضانة فقد يقرع بينهن وقد يتخير والقرعة أولى .
ويقدم الآباء على الأمهات في النظر في مصالح أموال المجانين والأطفال .
وفي التأديب وارتياد الحرف والصناعات ، لأنهم أقوم بذلك وأعرف به من الأمهات .
وكذلك يقدم في ولاية النكاح الأقارب على الموالي والحكام ، ويقدم من الأقارب أرفقهم بالمولى عليه كالآباء والأجداد ، وإذا
اجتمع [ ص: 77 ] أولياء النكاح في درجة واحدة كالإخوة والأعمام ، فالأولى للمرأة أن تأذن لأسنهم وأعلمهم وأفضلهم ، ولا تعدل إلى غيره لما في ذلك من كسر قلبه ، ولما في توليته من مصلحتها ، فإن أذنت الجميع جاز لتساويهم في تحصيل المصلحة المقصودة من النكاح ، فإذا أذنت لهم فالأفضل لهم أن يقدموا أفضلهم لما ذكرناه ، فإن لم يقدموا أحدهم وتنازعوا أيهم يتولى العقد أقرع بينهم لتساويهم . والإنسان يأنف من تقديم نظيره عليه ولا يأنف من تقديم من هو خير منه عليه .
وكذلك قلنا الأفضل أن يفوض العقد إلى أفضلهم ، ويقدم الجد على الأوصياء والأئمة والحكام ، ويقدم الأوصياء على الحكام ، وإنما قدمنا الأقرب من ذوي الأنساب لأن شفقته على المبالغة في جلب المصالح ودرء المفاسد .
ويجب على الأئمة في تفريق مال المصالح أن يصرفوه في تحصيل أعلاها مصلحة فأعلاها ، وفي درء أعظمها مفسدة فأعظمها .