( فائدة )
سعى الناس كلهم في جانب الأفراح واللذات وفي درء الغموم المؤلمات ، فمنهم من يطلب الأعلى من ذلك فالأعلى وقليل ما هم . ومنهم من يقتصر على طلب الأدنى ، ومنهم الساعون في المتوسطات ، والقدر من وراء سعي السعادة وكل متسبب في مطلوبه . فمن بين ظافر وخائب ومغلوب وغالب ورابح وخاسر ومتمكن وحاسر ، كلهم يتقلبون وإلى القضاء ينقلبون ، فمن طلب لذات المعارف والأحوال في الدنيا ولذة النظر والقرب في الآخرة فهو أفضل الطالبين ، لأن مطلوبه أفضل من كل مطلوب ، ومن طلب نعيم الجنان وأفراحها ولذاتها فهو في الدرجة الثانية ، ومن طلب أفراح هذه الدار ولذاتها في الدرجة الثالثة ، ثم يتفاوت هؤلاء الطلاب في رتب
[ ص: 13 ] مطلوباتهم . فمنهم الأعلون والمتوسطون ، فأما طلاب الآخرة فاقتصروا من طلب لذات الدنيا وأفراحها على ما يدفع الحاجة أو الضرورة واشتغلوا بمطالب الآخرة ، ولن يصل أحد منهم إلا إلى ما قدر له ، وقد غر بعضهم أنهم أدركوا بعض ما طلبوا فظنوا أنهم نالوا ذلك بحزمهم وقواهم فخابوا ونكصوا ووكلوا إلى أنفسهم فهلكوا ، ومنهم من واظب أنه لا ينال خيرا إلا بتوفيق الله ولا ينال ضيرا إلا بإرادة الله فهؤلاء لا يزالون في زيادة ، لأن الطاعات والمعارف والأحوال إذا دامت أدت إلى أمثالها وإلى أفضل منها . وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه ، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه ، ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ، ومن مشى إليه هرول إليه ومن نسب شيئا إلى نفسه فقد زل وضل ، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة ، لأن الله تعالى قال : {
لئن شكرتم لأزيدنكم } ، {
وسنجزي الشاكرين } .
وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته ، والتبري من الحول والقوة إلا به ، وهذا شأن العارفين ، وما خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين ، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة ، وسينزل كل أحد في دار قراره حكما وعدلا وحقا ، قسطا وفضلا ، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم ولا تغيره الهمم ، بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم ، فأين المهرب وإلى أين المذهب وقد عز المطلب ووقع ما يذهب ، فيا خيبة من طلب ما لم تجز به الأقدار ولم تكتبه الأقلام ، يا لها من مصيبة ما أعظمها وخيبة ما أفحمها . أين المهرب من الله وأين الذهاب عن الله وأين الفرار من قدرة الله ؟ بينا يرى أحدهم قريبا دانيا إذ أصبح بعيدا نائيا ، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حفظا ولا رفعا
[ ص: 14 ] بأي نواحي الأرض نرجو وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو
والله لن تصل إلى شيء إلا بالله فكيف توصل بغيره .