والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان : أحدهما جرح في عدالته والثاني نقص في بدنه .
فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين : أحدهما ما تابع فيه الشهوة .
والثاني ما تعلق فيه بشبهة ، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى ، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد .
وقال بعض المتكلمين : يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة لعموم ولايته ولحوق
[ ص: 20 ] المشقة في استئناف بيعته وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق ، فقد اختلف العلماء فيها .
فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل وغير تأويل وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل وغير تأويل .
وقال كثير من علماء
البصرة : إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة .
وأما
ما طرأ على بدنه من نقص فينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها نقص الحواس ، والثاني نقص الأعضاء ، والثالث نقص التصرف .
فأما نقص الحواس فينقسم ثلاثة أقسام : قسم يمنع من الإمامة ، وقسم لا يمنع منها ، وقسم مختلف فيه .
فأما القسم المانع منها فشيئان : أحدهما زوال العقل ، والثاني ذهاب البصر ، فأما زوال العقل فضربان :
أحدهما : ما كان عارضا مرجو الزوال كالإغماء فهذا لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها ، لأنه مرض قليل اللبس سريع الزوال ، وقد {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1296أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه } .
والضرب الثاني ما كان لازما لا يرجى زواله كالجنون والخبل فهو على ضربين : أحدهما أن يكون مطبقا دائما لا يتخلله إفاقة فهذا يمنع من عقد الإمامة واستدامتها ، فإذا طرأ هذا بطلت به الإمامة بعد تحققه والقطع به .
والضرب الثاني : أن يتخلله إفاقة يعود بها إلى حال السلامة فينظر فيه .
فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان الإفاقة فهو كالمستديم يمنع من عقد الإمامة واستدامتها ويخرج بحدوثه منها وإن كان زمان الإفاقة أكثر من زمان الخبل منع من عقد الإمامة .
واختلف في منعه من استدامتها ، فقيل يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها فإذا طرأ بطلت به الإمامة ، لأن في استدامته إخلالا بالنظر المستحق فيه ، وقيل لا يمنع من استدامة الإمامة وإن منع من عقدها في الابتداء لأنه يراعي في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل .
وأما ذهاب البصر فيمنع من عقد الإمامة واستدامتها فإذا طرأ بطلت به الإمامة لأنه
[ ص: 21 ] لما أبطل ولاية القضاء ومنع من جواز الشهادة فأولى أن يمنع من صحة الإمامة ، وأما عشاء العين وهو أن لا يبصر عند دخول الليل فلا يمنع من الإمامة في عقد ولا استدامة لأنه مرض في زمان الدعة يرجى زواله .
وأما ضعف البصر ، فإن كان يعرف به الأشخاص إذا رآها لم يمنع من الإمامة ، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرفها منع من الإمامة عقدا واستدامة .
وأما القسم الثاني من
الحواس التي لا يؤثر فقدها في الإمامة فشيئان : أحدهما الخشم في الأنف الذي لا يدرك به شم الروائح .
والثاني فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم فلا يؤثر على هذا في عقد الإمامة لأنهما يؤثران في اللذة ولا يؤثران في الرأي والعمل .
وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيها فشيئان
الصمم والخرس فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة ، لأن كمال الأوصاف بوجودهما مفقود .
واختلف في الخروج بهما من الإمامة ، فقالت طائفة يخرج بهما منها كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل .
وقال آخرون : لا يخرج بهما من الإمامة لقيام الإشارة مقامهما فلم يخرج منها إلا بنقص كامل ، وقال آخرون : إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة ، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة ، والأول من المذاهب أصح ، وأما تمتمة اللسان وثقل السمع من إدراك الصوت إذا كان عاليا فلا يخرج بهما من الإمامة إذا حدثا .
واختلف في ابتداء عقدها معهما ، فقيل بمنع ذلك من ابتداء عقدها لأنهما نقص يخرج بهما عن حال الكمال ، وقيل لا يمنع لأن نبي الله
موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النبوة فأولى أن لا يمنع من الإمامة .
( فصل ) وأما فقد الأعضاء فينقسم إلى أربعة أقسام : أحدها ما لا يمنع من صحة الإمامة في عقد ولا استدامة ، وهو ما لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا نهوض ولا يشين في المنظر ، وذلك مثل قطع الذكر والأنثيين ، فلا يمنع من عقد الإمامة ولا من استدامتها بعد العقد لأن فقد هذين العضوين يؤثر في
[ ص: 22 ] التناسل دون الرأي والحنكة فيجري مجرى العنة .
وقد وصف الله تعالى
يحيى بن زكريا بذلك وأثنى عليه فقال : {
وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } .
وفي الحصور قولان : أحدهما أنه العنين الذي لا يقدر على إتيان النساء قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس .
والثاني أنه من لم يكن له ذكر يغشى به النساء أو كان كالنواة قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، فلما لم يمنع ذلك من النبوة فأولى أن لا يمنع من الإمامة ، وكذلك قطع الأذنين لأنهما لا يؤثران في رأي ولا عمل ولهما شين خفي يمكن أن يستتر فلا يظهر .
والقسم الثاني ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها ، وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين أو من النهوض كذهاب الرجلين ، فلا تصح معه الإمامة في عقد ولا استدامة لعجزه عما يلزمه من حقوق الأمة في علم أو نهضة .
والقسم الثالث ما يمنع من عقد الإمامة ، واختلف في منعه من استدامتها وهو ما ذهب به بعض العمل أو فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرجلين فلا يصح معه عقد الإمامة لعجزه عن كمال التصرف ، فإن طرأ بعد عقد الإمامة ففي خروجه منها مذهبان للفقهاء : أحدهما يخرج به من الإمامة لأنه عجز يمنع من ابتدائها فمنع من استدامتها .
والمذهب الثاني أنه لا يخرج به من الإمامة وإن منع من عقدها ، لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة وفي الخروج منها كمال النقص .
والقسم الرابع ما لا يمنع من استدامة الإمامة ، واختلف في منعه من ابتداء عقدها وهو ما شان وقبح ولم يؤثر في عمل ولا في نهضة كجدع الأنف وسمل إحدى العينين ، فلا يخرج به من الإمامة بعد عقدها لعدم تأثيره في شيء من حقوقها .
وفي منعه من ابتداء عقدها مذهبان للفقهاء : أحدهما أنه لا يمنع من عقدها وليس ذلك من الشروط المعتبرة فيها لعدم تأثيره في حقوقها ، والمذهب الثاني أنه يمنع من عقد الإمامة وتكون السلامة منه شرطا معتبرا في
[ ص: 23 ] عقدها ليسلم ولاة الملة من شين يعاب ونقص يزدرى فتقل به الهيبة ، وفي قلتها نفور عن الطاعة ، وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة .
( فصل ) وأما
نقص التصرف فضربان : حجر وقهر .
فأما الحجر فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة ، فلا يمنع ذلك من إمامته ولا يقدح في صحة ولايته ولكن ينظر في أفعال من استولى على أموره ، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها تنفيذا لها وإمضاء لأحكامها لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة .
وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم يجز إقراره عليها ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه .
وأما القهر فهو أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين ، وسواء كان العدو مشركا أو مسلما باغيا ، وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة ،
وإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من نصرته وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك إما بقتال أو فداء ، فإن وقع الإياس منه لم يخل حال من أسره من أن يكونوا مشركين أو بغاة المسلمين ; فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة .
فإن
عهد بالإمامة في حال أسره نظر في عهده ; فإن كان بعد الإياس من خلاصه كان عهده باطلا لأنه عهد بعد خروجه من الإمامة فلم يصح منه عهد ، وإن عهد قبل الإياس من خلاصه وقت هو فيه مرجو الخلاص صح عهده لبقاء إمامته واستقرت إمامة ولي عهده بالإياس من خلاصه لزوال إمامته ، فلو خلص من أسره بعد عهده نظر في خلاصه ، فإن كان بعد الإياس منه لم يعد إلى إمامته لخروجه منها بالإياس واستقرت في ولي عهده ، وإن خلص قبل الإياس فهو على إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتا وإن لم يصر إماما .
وإن
كان مأسورا مع بغاة المسلمين ، فإن كان مرجو الخلاص فهو على إمامته ، وإن لم يرج خلاصه لم يخل حال البغاة من أحد أمرين : إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم
[ ص: 24 ] إماما أو لم ينصبوا ، فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور في أيديهم على إمامته لأن بيعته لهم لازمة وطاعته عليهم واجبة فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صارت تحت الحجر ، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة ، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم ، فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم يصر المستناب إماما لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده .
وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إماما دخلوا في بيعته وانقادوا لطاعته فالإمام المأسور في أيديهم خارج من الإمامة بالإياس من خلاصه ، لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة وللمأسور معهم قدرة ، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها ، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها .