[ ص: 199 ] الباب الرابع عشر :
فيما تختلف أحكامه من البلاد بلاد الإسلام تنقسم على ثلاثة أقسام : حرم ،
وحجاز ، وما عداهما .
أما
الحرم فمكة وما طاف بها من نصب حرمها ، وقد ذكرها الله تعالى باسمين في كتابه
مكة وبكة ، فذكر
مكة في قوله عز وجل : {
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } .
ومكة مأخوذ من قولهم تمككت المخ من العظم تمككا : إذا استخرجته عنه لأنها عك الفاجر عنها وتخرجه منها على ما حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي وأنشد قول الراجز في تلبيته :
يا مكة الفاجر مكي مكا ولا تمكي مذحجا وعكا
وذكر
بكة في قوله عز وجل : {
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي ، وسميت
بكة لأن الناس يبك بعضهم بعضا فيها أي يدفع ، وأنشد ( من الرجز ) :
إذا الشريب أخذته أكه فخله حتى يبك بكه
[ ص: 200 ] واختلف الناس في هذين الاسمين فقال قوم : هما لغتان والمسمى بهما واحد ; لأن
العرب تبدل الميم بالباء فتقول : ضربة لازم وضربة لازب لقرب المخرجين ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد . وقال آخرون : بل هما اسمان والمسمى بهما شيئان ، لأن اختلاف الأسماء موضوع لاختلاف المسمى . ومن قال بهذا اختلف في المسمى بهما على قولين : أحدهما أن
مكة اسم البلد كله
وبكة اسم
البيت وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي ويحيى بن أبي أيوب .
والثاني : أن
مكة الحرم كله
وبكة المسجد .
وهذا قول
الزهري nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=17094مصعب بن عبد الله الزبيري قال : كانت
مكة في الجاهلية تسمى صلاحا لأمنها ، وأنشد قول
أبي سفيان بن حرب بن أمية لابن الحضرمي ( من الوافر ) :
أبا مطر هلم إلى صلاح فيكفيك الندامى من قريش
وتنزل بلدة عزت قديما وتأمن أن يزورك رب جيش
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أن أم زحم والباسة ، فأما أم زحم فلأن الناس يتزاحمون بها ويتنازعون ، وأما الباسة فلأنها تبس من الحد فيها أي تحطمه وتهلكه ، ومنه قول الله تعالى : {
وبست الجبال بسا } . ويروى الناسة بالنون ومعناه أنها تنس من الحد فيها أي تطرده وتنفيه . وأصل
مكة وحرمتها ما عظمه الله سبحانه من حرمة بيته حتى جعلها لأجل
البيت الذي أمر برفع قواعده وجعله قبلة عباده أم القرى كما قال الله - سبحانه - : {
لتنذر أم القرى ومن حولها } .
وحكى
جعفر بن محمد عن أبيه
nindex.php?page=showalam&ids=17002محمد بن علي رضي الله عنهم أن سبب وضع
البيت والطواف به أن الله - تعالى - قال للملائكة :
[ ص: 201 ] {
إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } . فغضب عليهم فعاذوا بالعرش فطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عنهم .
وقال لهم ابنوا لي في الأرض بيتا يعوذ به من سخطت عليه من بني
آدم ويطوف حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم فبنوا له هذا
البيت ، فكان أول بيت وضع للناس قال الله تعالى {
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } فلم يختلف أهل العلم أنه
أول بيت وضع للناس للعبادة ، وإنما اختلفوا هل كان أول بيت وضع لغيرها ، فقال
الحسن وطائفة قد كان قبله بيوت كثيرة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة لم يكن قبله بيت .
وفي قوله تبارك وتعالى {
مباركا } تأويلان : أحدهما أن بركته بما يستحق من ثواب القصد إليه .
والثاني أنه أمن لمن دخله حتى الوحش فيجتمع فيه الظبي والذئب . {
وهدى للعالمين } تحتمل تأويلين :
أحدهما : هدى لهم إلى توحيده .
والثاني إلى عبادته في الحج والصلاة . {
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وكانت الآية في مقام
إبراهيم تأثير قدميه فيه ، وهو حجر صلد ، والآية في غير المقام : أمن الخائف وهيبة
البيت عند مشاهدته ، وامتناع الطير من العلو عليه ، وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه ; وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل ، وما عطف عليه قلوب
العرب في الجاهلية من تعظيمه ، وأن من دخله من الجاهلية وهم غير أهل كتاب ولا متبعي شرع يلتزمون أحكامه حتى إن الرجل منهم كان يرى فيه قاتل أخيه وأبيه فلا يطلبه بثأره فيه .
وكل ذلك آيات الله تعالى ألقاها على قلوب عباده .
[ ص: 202 ] وأما أمنه في الإسلام ففي قوله سبحانه وتعالى {
ومن دخله كان آمنا } تأويلان أحدهما آمنا من النار ، وهذا قول يحيى بن جعدة .
والثاني آمنا من القتل ، لأن الله تعالى أوجب الإحرام على داخله وحظر عليه أن يدخله محلا . وقال أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل
مكة عام الفتح حلالا : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=611أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لأحد من قبلي ، ولا تحل لأحد من بعدي } . ثم قال : {
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . فجعل حجه فرضا بعد أن صار في الصلاة قبلة ، لأن استقبال
الكعبة في الصلاة فرض في السنة الثانية من الهجرة ، والحج فرض في السنة السادسة . وإذ قد تعلق
بمكة للكعبة من أركان الإسلام عبادتان وباينت بحرمتها سائر البلدان وجب أن نصفها ثم نذكر حكم حرمها . فأما بناؤها فأول من تولاه بعد الطوفان
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فإنه سبحانه قال : {
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } .
فدل ما سألاه من القبول على أنهما كانا ببنائها مأمورين ، وسميت كعبة لعلوها مأخوذ من قولهم كعبت المرأة إذا علا ثديها ومنه سمي الكعب كعبا لعلوه وكانت
الكعبة بعد
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع
جرهم والعمالقة إلى أن انقرضوا حتى قال فيهم
عامر بن الحارث ( من الطويل ) :
[ ص: 203 ] كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
وخلفهم فيها
قريش بعد استيلائهم على
الحرم لكثرتهم بعد القلة وعزتهم بعد الذلة تأسيسا لما يظهره الله تعالى فيهم من النبوة ، فكان أول من جدد بناء
الكعبة من
قريش بعد
إبراهيم عليه السلام
قصي بن كلاب وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل قال
الأعشى ( من الطويل ) :
حلفت بثوبي راهب الشام والتي بناها قصي جده وابن جرهم
لئن شب نيران العداوة بيننا ليرتحلن مني على ظهر شيهم
ثم بنتها
قريش بعده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة وشهد بناءها وكان بابها في الأرض فقال
أبو حذيفة بن المغيرة يا قوم ارفعوا باب
الكعبة حتى لا تدخل إلا بسلم فإنه لا يدخلها حينئذ إلا من أردتم ، فإن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فيسقط فكان نكالا لمن رآه ففعلت
قريش ذلك .
وسبب بنائها أن
الكعبة استهدمت وكانت فوق القامة فأرادوا تعليتها ، وكان البحر قد ألقى سفينة لرجل من تجار
الروم إلى
جدة فأخذوا خشبها ، وكان في
الكعبة حية يخافها الناس فخرجت فوق جدار
الكعبة فنزل طائر فاختطفها فقالت
قريش إنا لنرجو أن يكون الله - سبحانه - قد رضي ما أردنا فهدموها وبنوها بخشب السفينة وكانت على بنائها إلى أن حوصر
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير بالمسجد من
الحصين بن نمير وعسكر
الشام حين حاربوه سنة أربع وستين في زمن
nindex.php?page=showalam&ids=17374يزيد بن معاوية فأخذ رجل من أصحابه نارا في ليفة على رأس رمح وكانت الريح عاصفة فطارت شرارة فتعلقت بأستار
الكعبة فأحرقتها فتصدعت حيطانها واسودت وتناثرت أحجارها فلما مات
يزيد وانصرف
الحصين بن نمير شاور
nindex.php?page=showalam&ids=14عبد الله بن الزبير في هدمها وبنائها فأشار به
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله nindex.php?page=showalam&ids=16531وعبيد بن عمير وأتاه
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس وقال لا تهدم بيت الله تعالى فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير أما ترى الحمام يقع على حيطان البيت فتتناثر حجارته ويظل أحدكم يبني بيته ولا يبني بيت الله ، ألا إني هادمه بالغداة فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
[ ص: 204 ] {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33670لو كانت لنا سعة لبنيته على أس إبراهيم ، ولجعلت له بابين شرقيا وغربيا } .
وسأل
الأسود هل سمعت من
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها في ذلك شيئا ؟ فقال نعم أخبرتني أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11646إن النفقة قصرت بقومك فاقتصروا ، ولولا حدثان عهدهم بالكفر لهدمته وأعدت فيه ما تركوا } . فاستقر رأي
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير على هدمه فلما أصبح أرسل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير فقيل : هو نائم فأرسل إليه وأيقظه وقال له أما بلغك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10972إن الأرض لتضج إلى الله تعالى من نومة العلماء في الضحى } فهدمها فأرسل إليه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس إن كنت هادمها فلا تدع الناس بلا قبلة ، فلما هدمت قال الناس كيف نصلي بغير قبلة ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد صلوا إلى موضعها فهو القبلة ، وأمر
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير بموضعها فستر ووضع الحجر في تابوت في خرقة حرير ، قال
عكرمة رأيته فإذا هو ذراع أو يزيد وكان جوفه أبيض مثل الفضة ، وجعل حلي
الكعبة عند الحجبة في خزانة
الكعبة ، فلما أراد بناءها حفر من قبل
الحطيم حتى استخرج أس
إبراهيم عليه السلام فجمع الناس ثم قال : هل تعلمون أن هذا أس
إبراهيم ؟ قالوا : نعم فبناها على أس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأدخل فيها الحجر ستة أذرع وترك منه أربعا .
وقيل : أدخل سبعة أذرع ، وترك ثلاثا وجعل لها بابين ملصوقين بالأرض شرقيا وغربيا يدخل من واحد ، ويخرج من الآخر ، وجعل على بابهما صفائح الذهب ، وجعل مفاتيحها من ذهب ، وكان ممن حضر بناءها من رجال
قريش أبو الجهم بن حذيفة العدوي فقال : عملت في بناء
الكعبة مرتين واحدة في الجاهلية بقوة غلام نفاع وأخرى في الإسلام بقوة كبير فان وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14413الزبير بن بكار أن
nindex.php?page=showalam&ids=14عبد الله بن الزبير وجد في الحجر صفائح حجارة خضر قد أطبق بها على قبر ، فقال له
عبد الله بن صفوان : هذا قبر نبي الله
[ ص: 205 ] إسماعيل عليه السلام فكف عن تحريك تلك الحجارة ، ثم بقيت
الكعبة في أيام
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير على حالها إلى أن حاربه
nindex.php?page=showalam&ids=14078الحجاج وحصره في المسجد ونصب عليه المنجانيقات إلى أن ظفر به وقد تصدع بناء
الكعبة بأحجار المنجنيق فهدمها الحجاج ، وبناها بأمر
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان وأخرج الحجر منها وأعادها إلى بناء
قريش على ما هي عليه اليوم فكان
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان يقول وددت أني كنت حملت
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير من أمر
الكعبة وبنائها ما تحمله .
وأما
كسوة الكعبة فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : {
أن أول من كسا البيت سعد اليماني } . ثم كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية ، ثم كساها
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان رضي الله عنهما القباطي ثم كساها
nindex.php?page=showalam&ids=17374يزيد بن معاوية الديباج الخسرواني .
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16883محارب بن دثار أن أول من كسا
الكعبة الديباج
خالد بن جعفر بن كلاب أصاب لطيمة في الجاهلية وفيها نمط ديباج فناطه
بالكعبة ، ثم كساها
nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=14078والحجاج الديباج ، ثم كساها
بنو أمية في بعض أيامهم الحلل التي كانت على أهل
نجران في حربهم ، وفوقها الديباج ثم جدد
nindex.php?page=showalam&ids=15156المتوكل رخام
الكعبة وأزرها بفضة ، وألبس سائر حيطانها وسقفها بذهب ثم كسا أساطينها الديباج ، ثم لم يزل كسوتها في الدولة العباسية بأسرها . وأما
المسجد الحرام فقد كان فناء حول
الكعبة للطائفين ولم يكن له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=1وأبي بكر الصديق رضي الله عنه جدار يحيط به ، فلما استخلف
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه وكثر الناس وسع المسجد واشترى دورا هدمها وزادها فيه وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد ذلك واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه أول من اتخذ جدارا للمسجد ، فلما استخلف
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنه ابتاع منازل فوسع بها المسجد وأخذ منازل أقوام ووضع لهم أثمانها فضجوا منه عند
البيت فقال : إنما جرأكم علي حلمي عنكم فقد فعل بكم
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه هذا فأقررتم ورضيتم ثم
[ ص: 206 ] أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم
عبد الله بن خالد بن أسد فخلى سبيلهم وبنى للمسجد الأروقة حين وسعه ;
فكان nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ للمسجد الأروقة . ثم إن
nindex.php?page=showalam&ids=15490الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام ، ثم إن
المنصور رحمه الله زاد في المسجد وبناه وزاد فيه
المهدي رحمه الله بعده وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا .
وأما
مكة فلم تكن ذات منازل وكانت
قريش بعد
جرهم والعمالقة ينتجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتسابا إلى
الكعبة لاستيلائهم عليها ، وتخصصا
بالحرم لحلولهم فيه ويرون أنه سيكون لهم بذلك شأن ، وكلما كثر فيهم العدد ونشأت فيهم الرياسة قوي أملهم وعلموا أنهم سيتقدمون على
العرب وكان فضلاؤهم وذوو الرأي والتجربة منهم يتخيلون أن ذلك لرياسة في الدين وتأسيس لنبوة ستكون ; لأنهم تمسكوا من أمور
الكعبة بما هو بالدين أخص ، فأول من شعر بذلك منهم وألهمه
كعب بن لؤي بن غالب وكانت
قريش تجتمع إليه في كل جمعة .
وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية عروبة فسماه كعب يوم الجمعة ، وكان يخطب فيه على
قريش فيقول على ما حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14413الزبير بن بكار : وأما بعد فاسمعوا وتعلموا وافهموا ، واعلموا أن الليل ساج والنهار صاح ، والأرض مهاد والجبال أوتاد ، والسماء بناء والنجوم أعلام ، والأولين كالآخرين والذكر والأنثى زوج إلى أن يأتي ما يهيج ، فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وثمروا أموالكم ، فهل رأيتم من هالك رجع أو ميت انتشر ، والدار أمامكم والظن غير ما تقولون ، حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم .
ثم يقول ( من الطويل ) :
نهار وليل كل يوم بحادث سواء علينا ليلها ونهارها
يئوبان بالأحداث فينا تأوبا وبالنعم الضافي علينا ستورها
صروف وأنباء تقلب أهلها لها عقد ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم يقول : أما والله لئن كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها
[ ص: 207 ] تنصب الجمل ولأرقلت فيها إرقال الفحل ، ثم يقول ( من البسيط ) :
يا ليتني شاهد فحواء دعوته حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
وهذا من فطن الإلهامات التي تخيلتها العقول فصدقت وتصورتها النفوس فتحققت ، ثم انتقلت الرياسة بعده إلى
قصي بن كلاب فبنى
بمكة دار الندوة ليحكم فيها بين
قريش ثم صارت الدار لتشاورهم وعقد الألوية في حروبهم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي : فكانت أول دار بنيت
بمكة ، ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه ; وكلما قربوا من عصر الإسلام ازدادوا قوة وكثرة عدد حتى دانت لهم
العرب فصدقت المخيلة الأولى في الرياسة عليهم ، ثم بعث الله سبحانه نبيه رسولا فصدقت المخيلة الثانية في حدوث النبوة فيهم فآمن به من هدي وجحد من عاند ، وهاجر عنهم صلى الله عليه وسلم حين اشتد به الأذى حتى عاد ظافرا بعد ثمان سنين من هجرته عنهم .
واختلف الناس في دخوله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح هل دخلها عنوة أو صلحا مع إجماعهم على أنه لم يغنم منها مالا ولم يسب فيها ذرية ، فذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك إلى أنه دخلها عنوة فعفا عن الغنائم ، ومن على السبي ، وإن للإمام إذا فتح بلدا عنوة أن يعفو عن غنائمه ويمن على سبيه . وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي إلى أنه دخلها صلحا عقده مع
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان كان الشرط فيه أن : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35597من أغلق بابه كان آمنا ، ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن ، ومن دخل دار nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان فهو آمن } .
إلا ستة أنفس استثنى قتلهم ولو تعلقوا بأستار
الكعبة وقد مضى ذكرهم ، ولأجل عقد الصلح لم يغنم ولم يسب ،
وليس للإمام إذا فتح بلدا عنوة أن يعفو عن غنائمه ، ولا يمن على سبيه لما فيهما من حقوق الله - تعالى - وحقوق الغانمين فصارت
مكة وحرمها حين لم تغنم أرض عشر إن زرعت لا يجوز أن يوضع عليها خراج .
واختلف الفقهاء في
بيع دور مكة وإجارتها ، فمنع
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة من بيعها وأجاز
[ ص: 208 ] إجارتها في غير أيام الحج ، ومنع منهما في أيام الحج لرواية
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35210مكة حرام لا يحل بيع رباعها ولا أجور بيوتها } .
وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله إلى جواز بيعها وإجارتها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم عليها بعد الإسلام بعدما كانت عليه قبله ، ولم يغنمها ولم يعارضهم فيها ، وقد كانوا يتبايعونها قبل الإسلام وكذلك بعده . هذه دار الندوة ، وهي أول دار بنيت
بمكة صارت بعد قصي
لعبد الدار بن قصي وابتاعها
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية في الإسلام من
عكرمة بن عامر بن هشام بن عبد الدار بن قصي وجعلها دار الإمارة وكانت من أشهر دار ابتيعت ذكرا وأنشرها في الناس خبرا ، فما أنكر بيعها أحد من الصحابة وابتاع
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان رضي الله عنهما ما زاداه في المسجد من دور
مكة وتملك أهلها أثمانها ، ولا حرم ذلك لما بذلاه من أموال المسلمين ثم جرى به العمل إلى وقتنا هذا فكان إجماعا متبوعا .
وتحمل رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد مع إرسالها على أنه لا يحل بيع رباعها على أهلها تنبيها على أنها لم تغنم فتملك عليهم فلذلك لم تبع ، وكذلك حكم الإجارة .