وإن
كان الناظر الذي رفع إليه هذا المتهوم أميرا أو من أولاد الأحداث والمعاون كان له مع هذا المتهوم من أسباب الكشف والاستبراء ما ليس للقضاة والحكام وذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم الناظرين .
أحدها أنه
لا يجوز للأمير أن يسمع قرف المتهوم من أعوان الإمارة من غير تحقيق للدعوى المقررة ويرجع إلى قولهم في الإخبار عن حال المتهوم ، وهل هو من أهل الريب ؟ وهل هو معروف بمثل ما قرف به أم لا ؟ فإن برءوه من مثل ذلك خفت التهمة ، ووضعت وعجل إطلاقه ولم يغلظ عليه ، وإن قرفوه
[ ص: 274 ] بأمثاله وعرفوه بأشباهه غلظت التهمة وقويت واستعمل فيها من حال الكشف ما سنذكره ، وليس هذا للقضاة .
والثاني : أن
للأمير أن يراعي شواهد الحال ، وأوصاف المتهوم في قوة التهمة وضعفها ، فإن كانت التهمة زنا وكان المتهوم مطيعا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة ، وإن كان بضده ضعفت ، وإن كانت التهمة بسرقة وكان المتهوم بها ذا عيارة أو في بدنه آثار ضرب أو كان معه حين أخذ منقب قويت التهمة ، وإن كان بضده ضعفت وليس هذا للقضاة أيضا .
والثالث : أن
للأمير أن يجعل حبس المتهوم للكشف والاستبراء . واختلف في مدة حبسه لذلك ، فذكر
عبد الله الزبيري من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن حبسه للاستبراء والكشف مقدر بشهر واحد لا يتجاوزه . وقال غيره : بل ليس بمقدر وهو موقوف على رأي الإمام واجتهاده وهذا أشبه وليس للقضاة أن يحبسوا أحدا إلا بحق وجب .
والرابع : أن يجوز
للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهوم ضرب التعزير لا ضرب الحد ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم ، فإن أقر ، وهو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه ، فإن ضرب لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم ، وإن ضرب ليصدق عن حالة وأقر تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره ، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار الثاني دون الأول ، فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه أن يعمل بالإقرار الأول ، وإن كرهناه .
والخامس : أنه يجوز
للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال ليدفع ضرره عن الناس ، وإن لم يكن ذلك للقضاة .
والسادس : أنه يجوز
للأمير إحلاف المتهوم استبراء لحاله وتغليظا عليه في الكشف عن أمره في التهمة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدميين ، ولا يضيق
[ ص: 275 ] عليه أن يجعله بالطلاق والعتاق والصدقة كالإيمان بالله في البيعة السلطانية ، وليس للقضاة إحلاف أحد على غير حق ولا أن يجاوز الإيمان بالله إلى الطلاق أو العتق .
والسابع : أن
للأمير أن يأخذ أهل الجرائم بالتوبة إجبارا ويظهر من الوعيد عليهم ما يقودهم إليها طوعا ، ولا يضيق عليهم الوعيد بالقتل فيما لا يجب فيه القتل ; لأنه وعيد إرهاب يخرج عن حد الكذب إلى حيز التعزير والأدب ، ولا يجوز أن يحقق وعيده بالقتل فيقتل فيما لا يجب فيه القتل .
والثامن : أنه
لا يجوز للأمير أن يسمع شهادات أهل الملل ومن لا يجوز أن يسمع منه القضاة إذا كثر عددهم .
والتاسع : أن
للأمير النظر في المواثبات ، وإن لم توجد غرما ، ولا حدا ، فإن لم يكن بواحد منهما أثر سمع قول من سبق بالدعوى ، وإن كان بأحدهما أثر فقد ذهب بعضهم إلى أنه يبدأ بسماع دعوى من به الأثر ولا يراعي السبق .
والذي عليه أكثر الفقهاء أنه يسمع قول أسبقهما بالدعوى ويكون المبتدئ بالمواثبة أعظمهما جرما وأغلظهما تأديبا ، ويجوز أن يخالف بينهما في التأديب من وجهين : أحدهما بحسب اختلافهما في الاقتراب والتعدي .
والثاني : بحسب اختلافهما في الهيبة والتصاون ، وإذا رأى من الصلاح في ردع السفلة أن يشهرهم وينادي عليهم بجرائمهم ساغ له ذلك ، فهذه أوجه يقع بها الفرق في الجرائم بين نظر الأمراء والقضاة في حال الاستبراء وقبل ثبوت الحد لاختصاص الأمير بالسياسة واختصاص القضاة بالأحكام .