( فصل ) وأما
المعاملات المنكرة كالزنا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه مع تراضي المتعاقدين به إذا كان متفقا على حظره فعلى والي الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه وأمره في التأديب مختلف لحسب الأحوال وشدة الحظر .
وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل له في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه ، فهل يدخل في إنكاره بحكم ولايته أو لا ؟ على ما قدمناه من الوجهين .
وفي معنى المعاملات وإن لم تكن منها عقود المناكح المحرمة ينكرها إن اتفق العلماء على حظرها ; ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كالمتعة فربما صارت ذريعة إلى استباحة الزنا ، ففي إنكاره لها وجهان ، وليكن بدل إنكاره لها الترغيب في العقود المتفق عليها ومما يتعلق بالمعاملات غش المبيعات وتدليس الأثمان فينكره ويمنع منه ويؤدب عليه بحسب الحال فيه .
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33996ليس منا من غش } .
فإن كان هذا الغش تدليسا على المشتري ويخفى عليه فهو أغلظ الغش تحريما وأعظمها مأثما فالإنكار عليه أغلظ والتأديب عليه أشد ، وإن كان لا يخفى على المشتري كان أخف مأثما وألين إنكارا ، وينظر في مشتريه ، فإن اشتراه ليبيعه من غيره توجه الإنكار على البائع لغشه وعلى المشتري بابتياعه ; لأنه قد يبيعه لمن لا يعلم بغشه ، فإن كان يشتريه ليستعمله خرج المشتري من
[ ص: 316 ] جملة الإنكار وتفرد البائع وحده ، وكذلك القول في تدليس الأثمان .
ويمنع من تصرية المواشي وتحفيل ضروعها عند البيع للنهي عنه فإنه نوع من التدليس .
ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصنجات لوعيد الله تعالى عليه عند نهيه عنه ، وليكن الأدب عليه أظهر والمعاقبة فيه أكثر .
ويجوز له إذا
استراب بموازين السوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها ولو كان له على ما عايره منها طابع معروف بين العامة لا يتعاملون إلا به كان أحوط وأسلم .
فإن فعل ذلك
وتعامل قوم بغير ما طبع بطابعه توجه الإنكار عليهم إن كان مبخوسا من وجهين : أحدهما لمخالفته في العدول عن مطبوعه وإنكاره من الحقوق السلطانية .
والثاني : للبخس والتطفيف في الحق وإنكاره من الحقوق الشرعية ، فإن
كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص توجه الإنكار عليهم بحق السلطنة وحدها لأجل المخالفة ; وإن
زور قوم على طابعه كان المزور فيه كالمهرج على طابع الدراهم والدنانير فإن قرن التزوير بغش كان الإنكار عليه والتأديب مستحقا من وجهين : أحدهما في حق السلطنة من جهة التزوير .
والثاني من جهة الشرع في الغش وهو أغلظ النكرين ، وإن سلم التزوير من غش تفرد بالإنكار السلطاني منهما فكان أحقهما .
وإذا
اتسع البلد حتى احتاج أهله فيه إلى كيالين ووزانين ونقادين تخيرهم المحتسب ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثقات وكانت أجورهم من بيت المال إن اتسع لها ، فإن ضاق قدرها لهم حتى لا يجري بينهم فيها استزادة ولا نقصان فيكون ذلك ذريعة إلى الممايلة والتحيف في مكيل أو موزون .
وقد كان الأمراء يقومون باختيارهم وترتيبهم لذلك ويثبتونهم بأسمائهم في الدواوين حتى لا يختلط بهم غيرهم ممن لا تؤمن وساطته ، فإن ظهر من أحد هؤلاء المختارين للكيل والوزن تحيف في تطفيف أو ممايلة في زيادة أدب أخرج عن جملة المختارين ومنع أن يتعرض للوساطة بين الناس وكذلك القول في
[ ص: 317 ] اختيار الدلالين يقر منهم الأمناء ويمنع الخونة ، وهذا مما يتولاه ولاة الحسبة إن قعد عنه الأمراء .
وأما
اختيار القسام والزراع فالقضاة أحق باختيارهم من ولاة الحسبة لأنهم قد يستنابون في أموال الأيتام والعيب .
وأما
اختيار الحراسين في القبائل والأسواق فإلى الحماة وأصحاب المعاون .
وإذا وقع في التطفيف تخاصم جاز أن ينظر المحتسب إن لم يكن مع الخصم فيه تجاحد وتناكر ، فإن أفضى إلى تجاحد وتناكر كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة لأنهم بالأحكام أحق وكان التأديب فيه إلى المحتسب ، فإن تولاه الحاكم جاز لاتصاله بحكمهم .
ومما ينكره المحتسب في العموم ولا ينكره في الخصوص والآحاد التبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التي لا نعرف فيه إن كانت معروفة في غيره ، فإن تراضى بها اثنان لم يعترض عليهما الإنكار والمنع ، ويمنع أن يرتسم بها قوم من العموم ; لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورا .