[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
قال الشيخ الإمام
العلامة شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية الحنبلي غفر الله له:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله المرسلين.
وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على جميع المكلفين، فرق الله برسالته بين: الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، فهو الميزان الراجح الذي على أقواله وأعماله وأخلاقه توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعته والاقتداء به يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.
أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد: طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وأغلق دون جنته الأبواب، وسد إليها الطرق، فلم يفتح إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.
[ ص: 4 ] هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغي.
وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا; فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، لا يرده عنه راد، ولا يصده عنه صاد، حتى سارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار.
فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين صلاة دائمة على تعاقب الأوقات والسنين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية، وتنافس فيه المتنافسون، وشمر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في دراية إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحرم; لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخية الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غيره هو عين [ق2] الضلال.
وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها مناديا، وأقامه على أعلامها داعيا، وإليها هاديا؟! فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحا واجتهادا، ازداد من الله طردا وإبعادا.
ذلك بأنه صدف عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضي لنفسه بكثرة القيل والقال،
[ ص: 5 ] وأخلد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالا على أمثاله من العبيد; لم يسلك من سبل العلم مناهجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم يطهر بالعصمة لبانه، وورد مشربا آجنا طالما كدره قلب الوارد ولسانه، تضج منه الفروج والدماء والأموال إلى من حلل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق إلى منزل الشرائع والأحكام.
فحق على من كان في سعادة نفسه ساعيا، وكان قلبه حيا واعيا، أن يرغب بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضرا ولا نفعا، وأن لا ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فإن لله يوما يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحقون،
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ،
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ، فما ظن من اتخذ غير الرسول إمامه، ونبذ سنته وراء ظهره، وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثي المتاع.