قال ابن القيم رحمه الله: حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر هذا فيه أحكام عديدة:
الحكم الأول: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس وهو غير محصور، فأجاب بما لا يلبس لحصره. فعلم أن غيره على الإباحة ونبه بالقميص على ما فصل للبدن كله، من جبة أو دلق أو دراعة أو عرقشين ونحوه.
ونبه بالعمامة [ ص: 344 ] على كل ساتر للرأس معتاد كالقبع والطاقية والقلنسوة والكلتة ونحوها، ونبه بالبرنس على المحيط بالرأس والبدن جميعا، كالغفارة ونحوها.
ونبه بالسراويل على المفصل على الأسافل، كالتبان ونحوه. ونبه بالخفين على ما في معناهما، من الجرموق والجورب والزربول ذي الساق ونحوه.
الحكم الثاني: أنه منعه من الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران، وليس هذا لكونه طيبا، فإن الطيب في غير الورس والزعفران أشد، ولأنه خصه بالثوب دون البدن.
وإنما هذا من أوصاف الثوب الذي يحرم فيه، ألا يكون مصبوغا بورس ولا زعفران،وقد نهي أن يتزعفر الرجل، وهذا منهي عنه خارج الإحرام، وفي الإحرام أشد. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض هنا إلا [ ص: 345 ] لأوصاف الملبوس، لا لبيان جميع محظورات الإحرام.
الحكم الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في لبس الخفين عند عدم النعلين ولم يذكر فدية، ورخص في حديث nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة في حلق رأسه مع الفدية، وكلاهما محظور بدون العذر.
والفرق بينهما: أن أذى الرأس ضرورة خاصة لا تعم، فهي رفاهية للحاجة.
وأما لبس الخفين عند عدم النعلين فبدل يقوم مقام المبدل، والمبدل - وهو النعل - لا فدية فيه، فلا فدية في بدله، وأما حلق الرأس فليس ببدل، وإنما هو ترفه للحاجة، فجبر بالدم.
أحدهما: أنه واجب، وهذا قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=12918وابن المنذر، وإحدى الروايتين عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعهما، وتعجب nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي من nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد فقال: العجب من nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في هذا ! فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلت سنة لم تبلغه. وعلى هذه الرواية إذا لم يقطعهما تلزمه الفدية.
والثاني: أن القطع ليس بواجب، وهو أصح الروايتين عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، ويروى عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب، وهو قول أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، وعطاء، [ ص: 346 ] وعكرمة.
وفي "صحيح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم "عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=655405من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل ، فهذا كلام مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، بين فيه في عرفات - في أعظم جمع كان له - ، أن من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ولم يأمر بقطع ولا فتق، وأكثر الحاضرين بعرفات لم يسمعوا خطبته بالمدينة، ولا سمعوه يأمر بقطع الخفين، وتأخير البيان عن وقته ممتنع؛ فدل هذا على أن هذا الجواز لم يكن شرع بالمدينة، وأن الذي شرع بالمدينة هو الخف المقطوع، ثم شرع بعرفات الخف من غير قطع.
فإن قيل: فحديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مقيد: وحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مطلق، والحكم والسبب واحد، وفي مثل هذا يتعين حمل المطلق على المقيد، وقد أمر في [ ص: 347 ] حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر بالقطع.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن قوله في حديث ابن عمر: "وليقطعهما" قد قيل: إنه مدرج من كلام نافع. قال صاحب "المغني": "كذلك روي في "أمالي أبي القاسم بن بشران" بإسناد صحيح: أن نافعا قال بعد روايته للحديث: nindex.php?page=hadith&LINKID=655404وليقطع الخفين أسفل من الكعبين ، والإدراج فيه محتمل، لأن الجملة الثانية يستقل الكلام الأول بدونها، فالإدراج فيه ممكن، فإذا جاء مصرحا به أن نافعا قاله زال الإشكال.
الجواب الثاني: أن الأمر بالقطع كان بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، فناداه رجل فقال: nindex.php?page=hadith&LINKID=651442ما يلبس المحرم من الثياب؟ فأجابه بذلك، وفيه الأمر بالقطع، وحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر بعده، nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار روى الحديثين معا ثم قال: "انظروا أيهما كان قبل" وهذا يدل على أنهم علموا نسخ الأمر بحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس.
[ ص: 348 ] وقال الدارقطني: قال أبو بكر النيسابوري: حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قبل، لأنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فذكره، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات .
فإن قيل: حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رواه أيوب nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=16008وابن عيينة وابن زيد nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج، وهشيم، كلهم عن nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار، عن nindex.php?page=showalam&ids=11867جابر بن زيد، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، ولم يقل أحد منهم "بعرفات" غير nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة، ورواية الجماعة أولى من رواية الواحد.
قيل: هذا عنت، فإن هذه اللفظة متفق عليها في "الصحيحين"، وناهيك برواية nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة لها، nindex.php?page=showalam&ids=16102وشعبة حفظها وغيره لم ينفها، بل هي في حكم جملة أخرى في الحديث مستقلة، وليست تتضمن مخالفة للآخرين، ومثل هذا يقبل ولا يرد، ولهذا رواه الشيخان.
وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه: قطع الخفين فساد ، يلبسهما كما هما . وهذا مقتضى القياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين السراويل وبين الخف في لبس كل منهما عند عدم الإزار والنعل، ولم يأمر بفتق السراويل، لا في حديث ابن عمر ولا في حديث ابن عباس ولا غيرهما.
ولهذا كان مذهب الأكثرين أنه يلبس السراويل بلا فتق عند [ ص: 349 ] عدم الإزار، فكذلك الخف يلبس ولا يقطع، ولا فرق بينهما، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة طرد القياس وقال: تفتق السراويل، حتى تصير كالإزار، والجمهور قالوا: هذا خلاف النص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=659023السراويل لمن لم يجد الإزار وإذا فتق لم يبق سراويل، ومن اشترط قطع الخف خالف القياس مع مخالفته النص المطلق بالجواز.
ولا يسلم من مخالفة النص والقياس إلا من جوز لبسهما بلا قطع، أما القياس فظاهر، وأما النص فما تقدم تقديره. والعجب أن من يوجب القطع يوجب ما لا فائدة فيه، فإنهم لا يجوزون لبس المقطوع كالمداس والجمجم ونحوهما، بل عندهم المقطوع كالصحيح في عدم جواز لبسه. فأي معنى للقطع، والمقطوع عندكم كالصحيح ؟!
وأما nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رحمه الله فيجوز لبس المقطوع، وليس عنده كالصحيح، وكذلك المداس والجمجم ونحوهما.
قال شيخنا: وأفتى به جدي أبو البركات في آخر عمره لما حج: قال شيخنا: وهو الصحيح، لأن المقطوع لبسه أصل لا بدل.
قال شيخنا: فأبو حنيفة رحمه الله فهم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أن المقطوع [ ص: 350 ] لبسه أصل لا بدل، فجوز لبسه مطلقا، وهذا فهم صحيح، وقوله في هذا أصح من قول الثلاثة. والثلاثة فهموا منه الرخصة في لبس السراويل عند عدم الإزار والخف عند عدم النعل، وهذا فهم صحيح، وقولهم في هذا أصح من قوله.
nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد فهم من النص المتأخر لبس الخف صحيحا بلا قطع عند عدم النعل، وأن ذلك ناسخ للأمر بالقطع، وهذا فهم صحيح، وقوله في ذلك أصح الأقوال.
فإن قيل: فلو كان المقطوع أصلا، لم يكن عدم النعل شرطا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جعله عند عدم النعل.
قيل: بل الحديث دليل على أنه ليس كالخف، إذ لو كان كالخف لما أمر بقطعه، فدل على أن بقطعه يخرج من شبه الخف، ويلتحق بالنعل.
وأما جعله عدم النعل شرطا فلأجل أن القطع إفساد لصورته وماليته، وهذا لا يصار إليه إلا عند عدم النعل، وأما مع وجود النعل فلا يفسد الخف ويعدم ماليته، فإذا تبين هذا تبين أن المقطوع ملحق بالنعل لا بالخف، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة، وأن على قول الموجبين للقطع لا فائدة فيه، فإنهم لا يجوزون لبس المقطوع، وهو عندهم كالخف.
فإن قيل: فغاية ما يدل عليه الحديث جواز الانتقال إلى الخف والسراويل عند عدم النعل والإزار، وهذا يفيد الجواز، وأما سقوط الفدية فلا، فهلا قلتم كما قال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة: يجوز له ذلك مع الفدية؟ فاستفاد الجواز من هذا الحديث، واستفاد الفدية من حديث nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة، حيث جوز له [ ص: 351 ] فعل المحظور مع الفدية، فكان أسعد بالنصوص وموافقتها منكم، مع موافقته nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر في ذلك.
قيل: بل إيجاب الفدية ضعيف في النص والقياس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر البدل في حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر، nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة، ولم يأمر في شيء منها بالفدية، مع الحاجة إلى بيانها، وتأخير البيان عن وقته ممتنع، فسكوته عن إيجابها مع شدة الحاجة إلى بيانه - لو كان واجبا - دليل على عدم الوجوب، كما أنه جوز لبس السراويل بلا فتق، ولو كان الفتق واجبا لبينه.
وأما القياس فضعيف جدا؛ فإن مثل هذا من باب الأبدال التي تجوز عند عدم مبدلاتها، كالتراب عند عدم الماء، وكالصيام عند العجز [عن] الإعتاق والإطعام، وكالعدة بالأشهر عند تعذر الأقراء ونظائره، وليس هذا من باب المحظور المستباح بالفدية.
والفرق بينهما: أن الناس مشتركون في الحاجة إلى لبس ما يسترون به عوراتهم، ويقون به أرجلهم الأرض والحر والشوك ونحوه، فالحاجة إلى ذلك عامة، ولما احتاج إليه العموم لم يحظر عليهم، ولم يكن عليهم فيه فدية، بخلاف ما يحتاج إليه لمرض أو برد، فإن ذلك حاجة لعارض، ولهذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في اللباس مطلقا بلا فدية، ونهى عن النقاب والقفازين، فإن المرأة لما كانت كلها عورة، وهي محتاجة إلى ستر بدنها، لم [ ص: 352 ] يكن عليها في ستر بدنها فدية، وكذلك حاجة الرجال إلى السراويلات والخفاف هي عامة، إذا لم يجدوا الإزار والنعال، وابن عمر لما لم يبلغه حديث الرخصة مطلقا أخذ بحديث القطع، وكان يأمر النساء بقطع الخفاف، حتى أخبرته بعد هذا صفية زوجته عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للنساء في ذلك ، فرجع عن قوله.
ومما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الخفين بلا قطع، بعد أن منع منهما: أن في حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر المنع من لبس السراويل مطلقا، ولم يبين فيه حالة من حالة، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر المتأخرين ترخيصه في لبس السراويل عند عدم الإزار، فدل على أن رخصة البدل لم تكن شرعت في لبس السراويل، وأنها إنما شرعت وقت خطبته بها، وهي متأخرة، فكان الأخذ بالمتأخر أولى، لأنه إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمدار المسألة على ثلاث نكت: إحداها: أن رخصة البدلية إنما شرعت بعرفات لم تشرع قبل. والثانية: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. والثالثة: أن المقطوع كالنعل أصل، لا أنه بدل. والله أعلم.