واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا أيضا بحديث nindex.php?page=showalam&ids=202دحية بن خليفة الكلبي " أنه لما سافر من قريته في رمضان وذلك ثلاثة أميال أفطر، فأفطر معه الناس، وكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا.
ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك ".
رواه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود وغيره.
واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبول رخصة الفطر.
واحتجوا أيضا بقول nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ".
رواه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي.
ولا يصح رفعه، وإنما هو موقوف.
واحتجوا أيضا بأن الله تعالى إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي أمر به، فلا يجوز غيره.
وحكي ذلك عن غير واحد من الصحابة.
وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في [ ص: 98 ] السفر على الإطلاق، وقد أخبر nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد " أنه صام مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح في السفر ".
قالوا: وأما قوله " nindex.php?page=hadith&LINKID=668485ليس من البر الصيام في السفر "، فهذا خرج على شخص معين، رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظلل عليه، وجهده الصوم، فقال هذا القول، أي ليس البر أن يجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ فيها هذا المبلغ، وقد فسح الله له في الفطر.
فالأخذ بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر.
وأيضا فقوله: " ليس من البر " أي ليس هو أبر البر؛ لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوى عليه.
وقد يكون الفطر في السفر المباح برا؛ لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه، وهو سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه، وما يحبه الله فهو بر، فلم ينحصر البر في الصيام في السفر.
وتكون " من " على هذا زائدة، ويكون كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم الآية وكقولك: ما جاءني من أحد، وفي هذا نظر.
وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة، بل هي على بابها.
والمعنى: أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتتنافسون عليه.
فإنهم ظنوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه، وأنه وحده البر الذي لا أبر منه، فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه، فإنه قد يكون الفطر أحب إلى الله منه، فيكون هو البر.
nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر هو الذي روى هذا وهذا، فاختصره بعض الرواة، واقتصر منه على آخره.
ولم يذكر nindex.php?page=showalam&ids=36جابر لفظا من النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا آخر الأمرين مني، وكذلك قصة الصيام، وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا، وآخرهما منه الفطر وترك الوضوء، وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها.
وأما قصة nindex.php?page=showalam&ids=202دحية بن خليفة الكلبي، فإنما أنكر فيها على من صام رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وظنا أنه لا يسوغ الفطر، ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب منكرا، وهو عاص بصومه.
والذين أمروهم الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم لا يجزئهم [ ص: 100 ] هم هؤلاء فإنهم صاموا صوما لم يشرعه الله، وهو أنهم ظنوا أنه حتم عليهم كالمقيم.
ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله، فلم يمتثلوا ما أمروا به من الصوم، فأمرهم الصحابة بالقضاء.
هذا أحسن ما حمل عليه قول من أفتى بذلك من الصحابة، وعليه يحمل قول من قال منهم: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "، وهذا من كمال فقههم، ودقة نظرهم رضي الله عنهم.
فبلغه أن ناسا صاموا فقال: أولئك العصاة "، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أفطر بعد العصر ليقتدوا به، فلما لم يقتد به بعضهم قال " أولئك العصاة "، ولم يرد بذلك تحريم الصيام مطلقا على المسافر.
ومر الظهران: أدنى إلى مكة من كراع الغميم، فإن كراع الغميم بين يدي عسفان بنحو ثمانية أميال، وبين عسفان ومكة ستة وثلاثون ميلا.
قالوا: وأما احتجاجكم بالآية، وأن الله أمر المسافر بالعدة، فهي فرضه الذي لا يجوز غيره، فاستدلال باطل قطعا.
فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية، وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها، قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر، ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم، ولا يعتقده مسلم، فعلم أن المراد بها [ ص: 102 ] غير ما ذكرتم.
فإما أن يكون المعنى: فأفطر، فعدة من أيام أخر، كما قال الأكثرون، أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزي عنه، وتقبل منه، ونحو ذلك.
فما الذي أوجب تعيين التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر، أو ففرضه، ونحو ذلك ؟ وبالجملة: ففعل من أنزلت عليه يفسرها، ويبين المراد منها، وبالله التوفيق.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم، يحتجون بعموم نص على حكم، ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده، ومن تدبر هذا علم به مراد النصوص، وفهم معانيها.
وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره.
فأقول لهم: كثرة الطواف أفضل منها، فيذكرون قوله: " nindex.php?page=hadith&LINKID=21828عمرة في رمضان تعدل حجة "، فقلت لهم في أثناء ذلك: محال أن يكون مراد صاحب الشرع العمرة التي يخرج إليها من مكة إلى أدنى الحل، وأنها تعدل حجة، ثم لا يفعلها هو مدة مقامه بمكة أصلا، لا قبل الفتح ولا بعده، ولا أحد من أصحابه، مع أنهم أحرص الأمة على الخير، وأعلمهم بمراد [ ص: 103 ] الرسول، وأقدرهم على العمل به.
ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم ؟ يقدر أن يحج أحدهم في رمضان ثلاثين حجة أو أكثر، ثم لا يأتي منها بحجة واحدة، وتختصون أنتم عنهم بهذا الفضل والثواب، حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر ؟ هذا ما لا يظنه من له مسكة عقل.
وإنما خرج كلام النبي صلى الله عليه وسلم على العمرة المعتادة التي فعلها هو وأصحابه، وهي التي أنشئوا السفر لها من أوطانهم، وبها أمر أم معقل، وقال لها: " nindex.php?page=hadith&LINKID=21828عمرة في رمضان تعدل حجة " ولم يقل لأهل مكة: اخرجوا إلى أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة.