الأمر الثاني: أن يكون فقيرا:
إذا كان فقيرا، فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ملكه الأكل من مال
[ ص: 327 ] اليتيم على قولين:
القول الأول: أنه يملك ذلك.
وهو قول الجمهور، فهو قول
للحنفية، ومذهب
المالكية، والشافعية، والحنابلة.
وحجته:
1- قوله تعالى:
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف
وقد تقدمت آثار الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، وأن الآية نزلت في ولي اليتيم يستعفف إذا كان غنيا، ويأكل بالمعروف إذا كان فقيرا.
ونوقش الاستدلال بهذه الآية من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية نسختها الآية التي تليها
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا كما ورد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: إن الناسخ قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .
وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:
الأول: أن الوارد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما- ضعيف، وعلى فرض ثبوته، فهو مخالف لما ورد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنهما- بجواز الأكل للفقير.
[ ص: 328 ] الثاني: أنه
لا يصار إلى النسخ إلا مع التعارض بين الدليلين، وعدم إمكان الجمع، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي: «أما من قال: إنه منسوخ، فهو بعيد لا أرضاه; لأن الله تعالى يقول:
فليأكل بالمعروف وهو الجائز الحسن، وقال:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فكيف ينسخ الظلم المعروف؟!
بل هو تأكيد له في التجويز; لأنه خارج عنه مغاير له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه، وهذا أبين من الإطناب».
الوجه الثاني: أن المراد بالآية أن يأكل الولي من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.
كما ورد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما.
وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:
الأول: أنه مخالف لتفسير غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- للآية، ومخالف لما ورد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس نفسه، قال
ابن النحاس: «واختلف عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسير الآية اختلافا كثيرا على أن الأسانيد عنه صحاح».
الثاني: أنه لو كان هذا معنى الآية لما احتيج إلى ذكره لكونه ظاهرا.
الوجه الثالث: أن المراد بالآية إن كان غنيا وسع عليه، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره.
[ ص: 329 ] ونوقش: هذا الوجه بما نوقش به الوجه السابق، وأيضا فإن اليتيم يأكل بالمعروف سواء كان غنيا أو فقيرا بخلاف الولي، فتبين أن الخطاب للولي.
وأيضا كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي: «إن الخطاب لا يصلح أن يكون له; لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء.
(334) 2- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من طريق حسين -يعني: المعلم- عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم
nindex.php?page=hadith&LINKID=669869«أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر ولا متأثل».
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأنه محمول على ما
إذا عمل الولي في مال اليتيم مضاربة، فله الأخذ مقدار ربحه.
وأجيب: بأنه تقييد لمطلق الحديث، ولا دليل على ذلك.
[ ص: 330 ] 3- قول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر -رضي الله عنه-: «ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف».
(335) 4- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث، عن
الحكم، عن
مقسم، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى:
ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف من مال نفسه، ومن كان فقيرا منهم إليها محتاجا، فليأكل بالمعروف».
ويأتي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنهما- أن المراد أكل الولي.
5- وتقدم عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قريبا.
القول الثاني: أنه لا يجوز
الأكل من مال اليتيم مطلقا، لا فقيرا ولا غيره.
وهو مذهب
الحنفية، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم.
وحجة هذا القول:
1- قوله تعالى:
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وقال تعالى:
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وقال تعالى:
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ ص: 331 ] وقوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقوله تعالى:
وأن تقوموا لليتامى بالقسط وقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
وجه الدلالة: قال
الجصاص: «وهذه الآي محكمة حاضرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر، وقوله تعالى:
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا، فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة، وهو أن يأكل -أي: الولي- من مال نفسه بالمعروف; لئلا يحتاج إلى مال اليتيم; لأن الله تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم، ونهانا عن اتباع من غير رد إلى المحكم...».
ونوقش الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه الآيات عامة في الحظر من مال اليتيم، والمبيحة لأكل الفقير خاصة، والخاص مقدم على العام.
الوجه الثاني: عدم التسليم على أن أدلة جواز الأكل من مال اليتيم من المتشابه، بل من المحكم البين، كما ورد تفسير الآية عن الصحابة رضي الله عنهم.
2- قوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ ص: 332 ] وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الخمس من مال المسلمين، فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم كذلك.
ونوقش: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من مال الفيء; لقوله -صلى الله عليه وسلم-:
nindex.php?page=hadith&LINKID=104062«إلا الخمس».
(336) 3- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن في كتاب الآثار من طريق رجل، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضا ولا غيره».
ولكنه ضعيف لا يثبت.
4- أن دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع، فلا أجرة له كالمستبضع.
ونوقش هذا الاستدلال: أن ما يأكله الولي من مال اليتيم ليس أجرة، وإنما رخصة من الله -عز وجل- مقابل قيامه على ماله.
الترجيح:
الراجح -والله أعلم- قول جمهور أهل العلم; إذ هو ظاهر القرآن الكريم، والقاعدة: أن جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين، فتبقى الآية على ظاهرها، وبهذا فسر
الصحابة -رضي الله عنهم- الآية.