دليل القول الرابع: (عدم لزوم الوقف) :
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت آية الفرائض:
nindex.php?page=hadith&LINKID=30707«لا حبس عن فرائض الله» .
وجه الدلالة: أن
القول بلزوم الوقف حبس للمال عن الورثة، ومنعهم من أخذ فرائضهم التي فرضها الله لهم.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يثبت.
الثاني: على فرض ثبوته فالمراد منع المال عن الوارث كما كان في الجاهلية يورثون المحاربين، ويحرمون الإناث والصغار.
[ ص: 36 ] 2 - ما جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب (الزهري) أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم - أو نحو هذا - لرددتها» .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي: «فلما قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه هذا دل ذلك أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها، وأنه إنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فيها بشيء وفارقه على الوفاء به فكره أن يرجع عن ذلك، كما كره
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن يرجع بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم الذي كان فارقه عليه أن يفعله، وقد كان له أن لا يصوم» .
ونوقش هذا الدليل من وجوه:
أحدها: أن هذا الخبر عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه منقطع; لأن
nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب لم يدرك
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر.
الثاني: أنه يبعد جدا أن يكون
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ندم على قبوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اختاره له في تحبيس أرضه، وتسبيل ثمرتها، كيف وهو الذي جاء يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرها، والله سبحانه وتعالى يقول:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، فحاشا
nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر رضي الله عنه أن يوصف بهذا.
الثالث: أنه لو فرض صحة هذا الخبر الوارد عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه ندم على وقفه، وأراد رده لولا كراهته الرجوع عن شيء فارق الرسول صلى الله عليه وسلم، لو فرض كل هذا فإنه لا تقوم به حجة; لأن قول الصحابي لا تقوم به
[ ص: 37 ] حجة إذا خالف النص الصحيح الصريح، كقوله: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق من ثمره» .
3 - ما روي
عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه - صاحب الأذان - : «أنه جعل حائطه صدقة، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، ثم ماتا، فورثه ابنهما بعدهما» .
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث بالإضافة إلى ما قيل فيه قد ورد في بعض طرقه ما يعارض دليلهم،
(192) فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من طريق
إسحاق بن أبي فروة، عن
عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن إبراهيم بن قارظ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=914142أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله مالي كله صدقة، قال: فافتقر أبواه حتى جلسا مع الأوفاض، ثم جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله كان ابننا من أكثر الأنصار مالا فتصدق بماله وافتقرنا حتى جلسنا مع الأوفاض، قال: «صدقة ابنكما رد عليكما» [ ص: 38 ] ثم توفيا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنهما: أن اردد الصدقة، فإن الصدقة لا تورث ولا تعمر.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبح الرجوع في الصدقة ولا عن طريق الميراث.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذه الرواية ضعيفة لا تقوى على مقابلة الروايات السابقة.
الوجه الثاني: أنه إن ثبت هذا الحديث، فقد ورد فيه أنه لم يكن لهم عيش إلا عيش هذا الحائط، وفي بعض الروايات: «أنه قوام عيشهم» فليس لأحد أن يتصدق بقوام عيشه، بل هو مفسوخ إن فعله، فهذا الحديث يستدل به على رد تصرف من تصدق بجميع ماله، فهو نظير بيع المدبر، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة كعب بن مالك رضي الله عنه.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث - إن ثبت - فليس فيه ذكر الوقف، والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوفة استناب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما، ولهذا لم يردها إليه إنما دفعها إليهما.
الوجه الرابع: أن هذا الحديث - إن ثبت - فإنه يحتمل أن الحائط الذي تصرف فيه
عبد الله بن زيد كان لأبويه، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما، فتصرف بهذا التصرف بغير إذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده
[ ص: 39 ] إليهما، ولهذا جاء عند الدارقطني قالا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنها كانت قيم وجوهنا ولم يكن لنا مال غيره، والله أعلم.
4 - ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، لا أعلمه إلا عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس رضي الله عنه، وفيه: «أن
nindex.php?page=showalam&ids=144حسان بن ثابت رضي الله عنه باع حصته من وقف
nindex.php?page=showalam&ids=86أبي طلحة من
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية» .
قال
الكرماني: «فإن قيل: كيف جاز بيع الوقف؟ قلت: التصدق على المعين تمليك له» .
ونوقش هذا الدليل: أن قول الكرماني يصادم قوله: «حبس الأصل»، وذلك أنه إذا بيع لم يكن محبسا، وأي معنى للتحبيس إذا جاز بيعه، ولذلك قال
العيني مشيرا إلى قول
الكرماني السابق: «فيه نظر لا يخفى» .
أما الجواب عن بيع
حسان: فإن هذا فعل صحابي لم يوافقه عليه الصحابة، وفي الحديث السابق في البخاري فقيل: تبيع صدقة أبي طلحة؟» ،
وقول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر ليس بحجة، هذا بالإضافة إلى أنه خالف نصا صحيحا صريحا عن الرسول صلى الله عليه وسلم،
وقول الصحابي إذا خالف النص لا تقوم به حجة، وقد خالف النص.
5 - القياس: حيث قاسوا الوقف على العارية فأجازوا الرجوع في
[ ص: 40 ] الوقف، كما أن
الرجوع في العارية جائز بجامع أن في كل منهما تصرف المنفعة إلى الجهة المقصود نفعها مع بقاء العين على ملك الواقف والمعير.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أنه قياس مع الفارق فلا يعتد به، فإنه في الوقف يجوز أن تكون العين في يد الواقف إذا وقف على نفسه أو جعل النظارة لنفسه، بينما في العارية لابد من تسليم العين إلى المستعير ليستفيد من منفعتها، وكذا لو أخرج الوقف من يده إلى ناظر غير الموقف عليه، فإنه يكون قد أخرج الوقف لشخص ليس هو المستوفي لمنافعه، بينما في العارية إنما تخرج العين إلى من يستوفي منافعها.
الوجه الثاني: أنه قياس فاسد، فلا يحتج به; لأنه في مقابل نص صحيح صريح، ولذلك يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية: «وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس علمنا - قطعا - أنه قياس فاسد» .
وقال في موضع آخر: «تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا» .
6 - ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح أنه قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس» .
وجه الدلالة: أن الحبس: جمع حبيس، وهو المال المحبوس، وكانوا في الجاهلية يحبسون بعض الأموال ويمنعون التصرف فيها، فجاء رسول الله
[ ص: 41 ] صلى الله عليه وسلم بإجازة بيعها، فالقول بلزوم الوقف يلزم عليه مشروعية الحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنهائها.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن المراد بقول
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح ما كان يحبسه أهل الجاهلية من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي مما حرمه الله ونهى عنه سبحانه في قوله:
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون .7 - أن الملك باق في العين الموقوفة بدليل أنه يجوز الانتفاع بها زراعة وسكنى وغير ذلك، وأنه لا يمكن أن يزال الملك لا إلى مالك; لأنه غير مشروع مع بقاء العين كالسائبة فتعين أن تكون إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك، وهذا المالك إما أن يكون الواقف أو غيره، قال الكمال: «واتفقنا على أنه لا يكون ملكا لغيره من العباد فوجب أن يكون ملكا للواقف، فلا تخرج العين عن ملكه، وعدم الخروج ملزوم لعدم لزومه صدقة أو برا» .
ونوقش هذا الدليل: أنا لا نوافقهم أن العين الموقوفة لا تخرج عن ملك واقفها، بل الصحيح أنها تخرج عن ملكه; لأنه إذا وقفها فقد تصدق بأصلها; لما ثبت
nindex.php?page=hadith&LINKID=652558أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: «تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» .
وحتى لو صح أن العين الموقوفة لا تخرج عن ملك واقفها، فإن عدم الخروج لا يستلزم عدم اللزوم، بل هما منفكان، كما في أم الولد، فإنها باقية تحت ملكه ولا يستطيع التصرف فيها ببيع أو هبة أو نحوها.
[ ص: 42 ] 8 -
قياس الوقف على العارية، فأجازوا الرجوع في الوقف، كما أن الرجوع جائز في العارية بجامع أن في كل منهما تصرف المنفعة إلى الجهة المقصود نفعها مع بقاء العين على ملك الواقف والمعير.
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه قياس مع الفارق; فإنه في الوقف يجوز أن تكون العين في يد الواقف إذا وقف على نفسه أو جعل النظارة لنفسه، بينما في العارية لا بد من تسليم العين إلى المستعير ليستفيد من منفعتها، وكذا لو أخرج الوقف من يده إلى ناظر غير الموقف عليه، فإنه يكون قد أخرج الوقف لشخص ليس هو المستوفي لمنافعه، بينما في العارية إنما تخرج العين إلى من يستوفي منافعها.
الثاني: أنه قياس فاسد فلا يحتج به; لأنه في مقابل نص صحيح صريح، كما سيأتي في أدلة القائلين باللزوم.
الثالث: أن العارية قبل الحكم وبعد الحكم سواء، فواجب أن يكون الوقف بعد الحكم وقبله سواء أيضا.
9 - أن الوقف يلزم إذا أضافه إلى ما بعد الموت; لأنه أخرجه مخرج الوصية.
10 - أن الوقف يلزم إذا حكم به حاكم; لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - لزوم الوقف; لقوة دليله، ولأنه شيء أخرجه الله لك فلا يجوز الرجوع فيه.