المطلب الخامس
الشهادة في التسامع على الوقف
اختلف الفقهاء في
إثبات الوقف بالسماع على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الشهادة بالتسامع على أصل الوقف: وهو ما تعلق به صحته وتوقف عليه تحققه شرعا مما هو مذكور في شروط صحته في الواقف، والشيء الموقوف، والجهة الموقوفة عليها، والصيغة جائزة .
أما شرائطه فإنها لا تجوز عليها، مثال ذلك : أن يشتهر أن هذا أو ذاك
[ ص: 457 ] وقف فلانا على كذا، فيشهدون أن فلانا وقفه على الفقراء أو القراء، أو على مسجد كذا، أو على أولاده، فلا يذكر أنه يبدأ من غلته، وينصرف إلى كذا وكذا من الجهات، أو من إمام أو مؤذن أو خطيب ومدرس... إلخ، ولا كيفية الصرف والولاية عليه، وغير ذلك مما يذكره الواقفون في شروطهم.
وبهذا قال بعض
الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
قال
ابن عابدين: "ولا يشهد بما لم يعاينه بالإجماع إلا في النسب والموت والنكاح والدخول بزوجته، وولاية القاضي وأصل الوقف".
وجاء في المادة (1688) من المجلة ما نصه : "يلزم أن يكون الشهود قد عاينوا بالذات المشهود به، وأن يشهدوا على ذلك الوجه، ولا يجوز أن يشهدوا بالسماع، يعني أن يشهد الشاهد بقوله سمعت من الناس، لكن إذا شهد بمحل أنه وقف، أو بوفاة واحد بقوله : سمعت من الثقة يعني لو قال : أشهد بهذا لأني هكذا سمعته من ثقة تقبل شهادته ".
وجاء في شرح المجلة: "لا يشترط في الشهادة بالسماع على أصل الوقف قصورها فقط بالأوقاف القديمة، بل تقبل حتى على الحديثة، وهذا هو ما حققه
الرملي حيث قال : وإطلاق المتون يعم المتقادم وغيره، عللوا بقبول الشهادة بالتسامع ببيد الشهود وفناء الأوراق، فكان هو المثبت للحكم، قلنا
[ ص: 458 ] انتفاؤها لا ينفي الحكم بعلة غيرها كما صرحت به أصحاب الأصول أن انتفاء العلة لا يوجب انتفاء الحكم عند تعددها".
وقال
ابن جزي : "تجوز الشهادة بالسماع الفاشي في أبواب مخصوصة، وهي عشرون، ومنها الوقف " .
وجاء في فتح الوهاب للشيخ
زكريا الأنصاري رحمه الله ما نصه: "وله بلا معارض شهادة بنسب وموت وعتق وولادة ووقف، ونكاح بتسامع من جمع يؤمن كذبهم... إلخ" .
وقال شيخ الإسلام: "والشهادة في مصرف الوقف مقبولة، وإن كان مستندها الاستفاضة في أصح القولين".
وحجتهم:
1- أن أصل الوقف يشتهر أما شرائطه فإنها لا تشتهر .
2- ولأنه لو لم يجز قبول شهادة التسامع عليه لأدى ذلك إلى استهلاك الأوقاف القديمة ; لأنه وإن كان قولا مما يقصد الإشهاد عليه، والحكم به في الابتداء إلا أنه بتوالي الأعصار يموت الشهود، وتفنى الأوراق مع اشتهار وقفيته فيبقى في البقاء سائبة عند عدم قبول الشهادة عليه بالتسامع، فمست الحاجة إلى إثباته بهذه الشهادة ; لأنه من الأشياء المؤبدة، فإذا طالت مدتها عسرت إقامة البينة على ابتدائها .
القول الثاني: أن الشهادة بالتسامع تجوز في شرائط الوقف ، كما تجوز
[ ص: 459 ] في شروط صحته - على أرجح الأقوال عند
الحنفية كما في المجتبى، قال
ابن الهمام: "وأنت إذا عرفت قولهم في الأوقاف التي انقطع ثبوتها ولم يعرف لها شرائط ومصارف أنها يسلك بها ما كانت عليه في دواوين القضاة لم تقف عن تحسين ما في المجتبى; لأن ذلك هو معنى الثبوت بالتسامع".
القول الثالث: أن الوقف لا يثبت بالشهادة بالتسامع; لأنه يمكن الاطلاع على الواقف، بل إن هذا ميسور، فلا حاجة إلى شهادة التسامع على الوقف .
وبهذا قال بعض
الشافعية، وبعض
الحنابلة.
القول الرابع : ثبوت أصل الوقف ومصارفه، وكل ما يتعلق به من شروط الواقف وغيرها بشهادة السماع إذا شهدت هذه البينة بأن هذا الشيء موقوف على الحائز له أو على فلان، وليست ذات هذا الشيء بيد أحد; لأنه لا يلزم تسمية الواقف في شهادة السماع .
أما إذا كانت بيد حائز مدع ملك ذلك الشيء، ففيه خلاف :
1- قيل : لا ينزع ذلك الشيء من يد الحائز بهذه الشهادة كالملك .
2- وقيل: ينزع منه بهذه الشهادة ما شهدت بوقفيته احتياطا للوقف .
[ ص: 460 ]
وعلى هذا القول يكون الوقف مستثنى من قولهم لا ينزع ببينة السماع من يد حائز .
وبه قال
المالكية .
الترجيح:
والراجح - والله أعلم - إثبات الوقف وشرائطه بالسماع ; لأن وثائق إثبات الأوقاف معرضة للتلف، والضياع، ويموت شهود البت ويتعذر إقامة البينة على ابتدائه .
ولذا فإن الحاجة ماسة إلى شهادة التسامع على الوقف; إذ لو لم تجز هذه الشهادة عليه لضاعت أوقاف المسلمين .
[ ص: 461 ]