المبحث الثالث: الرجوع بشراء الهبة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول:
شراء الواهب هبته من الموهوب له
إذا لزمت الهبة جاز للموهوب له التصرف فيها ببيعها، أو هبتها، أو غير ذلك.
ويجوز لغير الواهب اشتراؤها منه بغير خلاف.
وهل يجوز للواهب اشتراء ما وهب من الموهوب له؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحرم شراء الواهب هبته.
وهذا هو المشهور من مذهب
الحنابلة.
القول الثاني: يكره شراء الواهب هبته.
[ ص: 203 ]
وهذا قول
الحنفية، والمالكية في المشهور من مذهبهم
والشافعية، وهو رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد.
وقيد
المالكية الكراهة بالهبة التي لا تعتصر، أي: غير هبة الوالد لولده.
القول الثالث: يباح للواهب شراء هبته من الموهوب له.
وهو رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في الصدقة، والهبة من باب أولى.
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
1- حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=660059 "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه".
(261) 2- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر -رضي الله عنه- يقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651395 "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه -وظننت أنه يبيعه برخص- فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشتر، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه".
وفي رواية: أن
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر كان يحدث
nindex.php?page=hadith&LINKID=651394 "أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- [ ص: 204 ] تصدق بفرس في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأمره، فقال: "لا تعد في صدقتك" فبذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة".
وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر عن شراء هبته وصدقته، والهبة ملحقة بالصدقة بجامع الإحسان والتقرب إلى الله تعالى، والنهي يقتضي التحريم، ثم جعل شراءها عودا فيها، ثم شبه العود بأقبح وأشنع تشبيه، وهو عود الإنسان في قيئه مما يعين إرادة التحريم.
3- ولأن شراء الهبة وسيلة إلى استرجاع شيء منها; لأنه يسامحه في ثمنها حياء أو رغبة أو رهبة، فيصير الواهب الذي اشتراها كالراجع في بعضها.
والرجوع في الهبة أو في بعضها حرام، فيكون الشراء حراما.
قال
ابن حجر: "وسمى شراءه برخص عودا في الصدقة من حيث إن الغرض منها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة، مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق فكيف بالمتصدق؟! فيصير راجعا في ذلك المقدار الذي سومح فيه".
والهبة ملحقة بالصدقة كما تقدم.
أدلة أصحاب القول الثاني: (الكراهة):
(262) 1- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار، عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691958 "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني". [ ص: 205 ] [ ص: 206 ]
الصواب مرسل، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني وغيره.
والشاهد من الحديث قوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=100340 (أو رجل اشتراها بماله) فهو عام في المتصدق وفي غيره، وفي شرائها من المتصدق عليه ومن غيره.
والهبة من باب أولى.
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث مرسل.
الوجه الثاني: أنه يحمل على شراء الرجل صدقة غيره لا صدقة نفسه.
الوجه الثالث: أنه يحمل على شراء الصدقة بقيمتها، أو بأكثر من قيمتها، لا بأقل.
الوجه الرابع: أنه يحمل على صدقة الفريضة لا صدقة التطوع، فيكون الشراء جائزا في صدقة الفريضة وغير جائز في صدقة التطوع; لأنه لا يتصور الرجوع في صدقة الفريضة حتى يكون الشراء مشبها له، بخلاف صدقة التطوع، فإنه يتصور الرجوع فيها، فحرم ما يشبهه، وهو الشراء.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر في شرح هذا الحديث: قوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=691958 "لا تحل لغني إلا لخمسة: يريد الصدقة، وأما التطوع فغير محرمة على أحد غير من ذكرنا على حسب ما وصفنا في هذا الباب، إلا أن التنزه عنها حسن، وقبولها من غير مسألة لا بأس به".
[ ص: 207 ]
2- ما جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه لا يتفق له اشتراء شيء تصدق به، إلا اشتراه وجعله صدقة مرة أخرى".
فهذا فعل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر، وهو راوي الحديث عن أبيه، مما يدل على أن النهي ليس للتحريم، بل للكراهة.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رآه، وفعل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يعارض به قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهيه.
الوجه الثاني: أن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر -رضي الله عنهما- فهم أن النهي عن
شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها، لا لمن يريدها صدقة.
قال
الشوكاني: "فلو فهم منه التحريم لما فعله وتقرب بصدقة تستند إليه".
قالوا: وأما
تشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- العود في الهبة بعود الإنسان في قيئه، فالمراد به التنفير والاستقذار والعيافة لا التحريم بل للكراهة.
وأجيب: بأن هذا حمل للحديث عن ظاهره بلا دليل يعتمد عليه.
أدلة أصحاب القول الثالث: (الإباحة):
1- عموم حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدم قريبا، الذي فيه
nindex.php?page=hadith&LINKID=100340 "أو رجل اشتراها بماله".
وتقدم أن الحديث مرسل.
[ ص: 208 ]
وجه الدلالة: أن الحديث عام في جواز شراء الصدقة، سواء كانت ما تصدق به الإنسان أو غيره.
2- القياس على جواز رجوع الهبة إلى الواهب بالميراث.
فيجوز رجوعها بالميراث، فكذا الشراء.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أنه قياس في مقابلة النص، فالنص قد جاء بالنهي عن شراء الصدقة، والأصل في النهي التحريم.
الوجه الثاني: وجود الفارق بين رجوع الهبة بالميراث، ورجوعها بالشراء فرجوعها بالميراث بغير اختيار الشخص، ورجوعها بالشراء باختياره، وبهذا الفرق يكون الشراء أشبه بالرجوع في الهبة بخلاف الميراث.
الترجيح:
يترجح لي القول الأول، وهو تحريم شراء الإنسان هبته من الموهوب له; لتشبيه الراجع في هبته بالكلب في أقبح صورة، وأيضا فإن التشبيه في الكتاب والسنة بالحيوان لم يرد إلا في مواضع الذم.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11963القرطبي: "والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم، فاجمع ألفاظه، وتدبر معانيها، يلح ذلك إن شاء الله تعالى ".
* * *
[ ص: 209 ]