أدلة القول الثاني: (جواز التبرعات مطلقا للمريض مرض الخوف): استدلوا بما يأتي:
1- ما ورد في الكتاب والسنة من الحث على الإحسان، كقوله تعالى:
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وقوله:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقوله:
ولا تنسوا الفضل بينكم وقوله تعالى:
إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم .
وجه الاستشهاد: أن
الله جل وعلا حث على التبرع والصدقة، ولم يخص بالأمر على ذلك الصحيح دون المريض، بل الأمر شامل لهما، فدل على أن
تبرع المريض صحيح ولو زاد عن الثلث، ولا يخرج من هذا العموم إلا ما ورد الدليل عليه كالوصية بأكثر من الثلث، أو التصدق بجميع المال حال المرض، والنهي عن نسيان الفضل يتضمن الأمر ببذل الفضل; لأن النهي عن الشيء أمر بضده، والفضل عام في القليل والكثير، وقوله:
[ ص: 265 ] إن المصدقين جمع معرف بأل، فيعم الصحيح والمريض، وحذف المعمول يؤذن بالعموم.
فإذا اتفق على جواز هبته في الصحة، فيستصحب هذا الإجماع في حال المرض، إلا أن يدل دليل، ولا دليل على ما ذكر.
(272) 2- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
أبي زرعة، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=652543جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر".
(273) 3- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من طريق
أبي إسحاق، عن
أبي حبيبة الطائي، عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664419 "مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع". [ ص: 266 ]
وجه الاستشهاد: في هذه الأحاديث تفاضل الصدقة، وكون
صدقة الصحة خيرا من صدقة المرض، فدل على صحة صدقة المرض وقبولها، لكن صدقة الصحة أفضل، وقوله: "تصدق" دليل أنها تبرع لا وصية.
قال
ابن حجر -رحمه الله-: "تنجيز وفاء الدين، والتصدق في الحياة، وفي الصحة، أفضل منه بعد الموت وفي المرض".
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه العمومات خاصة بحال الصحة، أو المرض غير المخوف، أما حالة المرض المخوف فقد أخرجها عن هذه العمومات ما تقدم من أدلة الجمهور.
الوجه الثاني: أن هذا محمول على المرض غير المخوف.
أجيب عليه: أنه إذا أطلق المرض دل على العموم، وأيضا قوله: "عند موته" يدل على أنه مرض مخوف، ولهذا أعتق وتصدق.
[ ص: 267 ]
ورد: بما تقدم بأن حالة المرض المخوف خارجة عن هذا العموم، وأن قوله: "عند موته" يراد بها المرض غير المخوف.
(274) 4- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16920محمد بن المنكدر، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-
nindex.php?page=hadith&LINKID=66411 "أن رجلا أعتق عبدا له لم يكن له مال غيره، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وجه الاستشهاد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد العبد ولم يخص العتق، فدل على أن سبب المنع أنه لم يبق لورثته شيء، ولو قيل بصحة تبرعه في الثلث لقسمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثلاثا، لكنه لم يفعل، فدل ذلك على أن التبرع في مرض الموت ليس كالوصية.
ونوقش هذا الاستدلال: أنه لم يقسمه أثلاثا; لأن ما سيبقى لا يغني الورثة، فهذا سبب المنع.
(275) 5- ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة، أنا
nindex.php?page=showalam&ids=17419يونس بن عبيد، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين: "أن امرأة رأت فيما يرى النائم أنها تموت إلى ثلاثة أيام، فأقبلت على ما بقي من القرآن عليها فتعلمته، وشذبت ما لها وهي صحيحة، فلما كان يوم الثالث دخلت على جاراتها، فجعلت تقول: يا فلانة أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، فجعلن يقلن لها: لا تموتين اليوم، لا تموتين اليوم إن شاء الله، فماتت، فسأل زوجها
nindex.php?page=showalam&ids=110أبا موسى الأشعري عن ذلك؟ فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى: أي امرأة كانت امرأتك؟ فقال: ما أعلم أحدا كان أحرى منها أن تدخل الجنة إلا الشهيد، ولكنها فعلت ما فعلت وهي
[ ص: 268 ] صحيحة، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى: هي كما تقول فعلت ما فعلت وهي صحيحة، فلم يرده
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى".
ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الأثر دليل للجمهور؛ إذ قول
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى: "فعلت ما فعلت وهي صحيحة" يدل على أن هذا هو أساس الحكم عنده، وأنه أجاز تصرفها لكونها صحيحة; إذ لو كانت مريضة لتغير الحكم، فدل على أن المرض له تأثير في تصرفات المريض.
6- أن المعتبر في الشخص صحيحا كان أو مريضا أهليته ببقاء عقله ورشده; لأن العقل مناط الأحكام؛ ولهذا صح عند الجميع نكاح المريض وإسلامه وبيعه وشراؤه، فكذلك هباته; إذ المعتبر بقاء العقل.
يدل لذلك أن المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت إذا اختل عقله أنه لا حكم لكلامه ولا تبرعاته، فلم يكن للمرض اعتبار بل للعقل، فكذلك هنا، وهذا هو الأصل فلا يخرج عنه إلا بدليل، ولا دليل.
ونوقش هذا الاستدلال: أنه لا يسلم لكم ذلك، بل لكون المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت بمنزلة من حضره الموت، فألحقت عطاياه بالوصية، كما قال تعالى:
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين .