المبحث الثاني: بيان حكمه، ودليله
الوقف تدور عليه الأحكام الخمسة التكليفية، لكن اختلف العلماء، رحمهم الله تعالى، في الأصل فيه، هل هو المشروعية مطلقا، أو المنع؟ على أقوال:
القول الأول: أن
الوقف مستحب مندوب إليه.
وهذا هو قول جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي: « والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافا في إجازة وقف الأرضين، وغير ذلك ».
[ ص: 67 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم: « صدقات الصحابة بالمدينة أشهر من الشمس لا يجهلها أحد ».
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13439الموفق ابن قدامة: « وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف ».
وقال
النفراوي: « اختلف أهل الإسلام في حكمه، والصحيح - وهو
مذهب الجمهور - جوازه بل ندبه; لأنه من أحسن ما تقرب به إلى الله تعالى ».
وقال
الشيرازي: « الوقف قربة مندوب إليها، ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام ».
وقال
الخلال: أخبرنا
محمد بن علي بن محمود الوراق: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16207صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال لأبيه قول
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح: « لا حبس عن فرائض الله » قال أبي: هذا خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، وسأله عن أرض أصابها، فقال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=669808احبسها وسبل ثمرتها ».
وقال
برهان الدين ابن مفلح: « وهو من القرب المندوب إليها. قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد: من يرد الوقف إنما يرد السنة التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه ».
القول الثاني: التفصيل،
فيصح في بعض الأشياء دون بعض. [ ص: 68 ]
وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم: « التحبيس - وهو الوقف - جائز في الأصول من الدور والأرضين بما فيها من الغراس والبناء إن كانت فيها، وفي الأرحاء، وفي المصاحف والدفاتر، ويجوز أيضا في العبيد، والسلاح، والخيل في سبيل الله وفي الجهاد فقط لا في غير ذلك ».
القول الثالث: إن
الوقف جائز شرعا في السلاح والكراع فقط، باطل فيما عدا ذلك.
وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي.
(3 ) أخرج
ابن الجعد: ثنا
عبد الله قال: ثنا
علي قال: أنا
nindex.php?page=showalam&ids=11816أبو إسحاق الفزاري، عن
المغيرة، عن
إبراهيم: « لا حبيس إلا حبيس في سبيل الله. قال: من سلاح أو كراع ».
القول الرابع: أن
الوقف غير جائز إلا إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي.
وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة نقله عنه متقدمو أصحابه، وحمله المتأخرون من أصحابه على أن المراد به: أنه غير لازم، أما أصل الجواز فثابت عنده.
[ ص: 69 ]
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن: « كان
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة لا يجيز شيئا من الحبس على وجه من الوجوه إلا في خصلة واحدة في الوصية عند الموت ».
وجاء في وقف هلال: « قلت: أرأيت رجلا قال: أرضي هذه، وسمى حدودها، صدقة موقوفة؟... قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة: هذا كله باطل لا يجوز، ولا يكون وقفا، وله أن يحدث فيه ما بدا له بعد ذلك ».
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14475السرخسي: « وظن بعض أصحابنا أنه غير جائز على قول أبي حنيفة، وإليه يشير في ظاهر الرواية، فنقول: أما
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة فيجيز ذلك، ومراده أنه لا يجعله لازما، وأما أصل الوقف فثابت عنده ».
وقال الكاساني: « ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت ».
القول الخامس: أن
الوقف لا يجوز مطلقا.
وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي، nindex.php?page=showalam&ids=16097وشريح.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14475السرخسي: « سئل
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي عن الحبس فقال: جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبس ».
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13439الموفق ابن قدامة: « ولم ير
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح الوقف، وقال: لا حبس عن فرائض الله »
[ ص: 70 ] الأدلة:
أدلة القول الأول: (مشروعية الوقف ) :
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - قوله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
(4 ) فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
إسحاق بن عبد الله أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ...
nindex.php?page=hadith&LINKID=651368فلما نزلت هذه الآية قام nindex.php?page=showalam&ids=86أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: « بخ، ذلك مال رابح - أو رايح شك ابن مسلمة - وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ».
وبوب له
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري: باب: إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة.
2 - قوله تعالى:
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .
وجه الدلالة: قال
السعدي: « وآثارهم، وهي آثار الخير، وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم...، أو عمل خيرا من صلاة أو زكاة أو صدقة، أو إحسان فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس... ».
[ ص: 71 ]
3 - قوله تعالى:
وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقوله تعالى:
فاستبقوا الخيرات ، وقوله تعالى:
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، وقوله تعالى:
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ، وقوله تعالى:
وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، وقوله تعالى:
وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون وجه الدلالة: أن هذه الآيات ونحوها دلت على
الإحسان على الفقراء والمساكين، والأقارب، والمسارعة إلى فعل الطاعات ووجوه الخير المتنوعة، ومن أعظم طرق ذلك ووسائله الوقف.
(5 ) 4 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=652565أصاب nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بخيبر أرضا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس فيه فكيف تأمرني به؟ قال: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها »، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه ».
قال النووي: « وفي
هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف، وأنه مخالف لسوائب الجاهلية ».
[ ص: 72 ]
قال
ابن حجر: « وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر هذا أصل في
مشروعية الوقف ».
(6 ) 5 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق
طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15985سعيدا المقبري يحدث أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=652641من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله، وتصديقا بوعده; فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة ».
قال
ابن حجر: « قال المهلب وغيره: في هذا الحديث جواز
وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه
جواز وقف غير الخيل من المنقولات، ومن غير المنقولات من باب الأولى ».
(7 ) 6 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي من طريق
أبي مسعود الجريري، عن
ثمامة بن حزن القشيري قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=666006شهدت الدار حين أشرف عليهم nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان، فقال: « ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي، قال: فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي ». [ ص: 73 ] [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] [ ص: 76 ]
فهذا الحديث أورده كل من
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي في الأوقاف كدليل على اتخاذ السقايات.
(8 ) 7 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من طريق
مرزوق بن أبي الهذيل، حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري، حدثني
أبو عبد الله الأغر، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=676751إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجد بناه، أو بيتا لابن السبيل [ ص: 77 ] بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته ».
فقد أورده
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة في كتاب الصدقات والأحباس دليلا على فضل بناء السوق لأبناء السابلة، وحفر الأنهار للشارب.
(9 ) 8 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من طريق
العلاء، عن أبيه، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=660092إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ».
قال
النووي: « فيه
دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه، فالصدقة الجارية في الوقف ».
(10 ) 9 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق
أبي إسحاق، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16700عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية بنت الحارث قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=652534ما ترك [ ص: 78 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما، ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة ».
قال
ابن حجر: « إنه تصدق بمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف ».
كذلك أورده
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي، وجعله أول حديث في كتاب الأحباس.
(11 ) 10 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17246هشام بن عمار، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15667حاتم بن إسماعيل، ح، وحدثنا
سليمان بن داود المهري، أخبرنا
ابن وهب، أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=16379عبد العزيز بن محمد، ح، وحدثنا
نصر بن علي، حدثنا
صفوان بن عيسى - وهذا لفظ حديثه - كلهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16870مالك بن أوس بن الحدثان قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=674500كان فيما احتج به nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه أنه قال: « كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزءين بين المسلمين، وجزءا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين ».
[ ص: 79 ]
(12 ) 11 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش، عن
إبراهيم، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17073مسروق، عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب، وبني هاشم ».
(13 ) 12 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير، عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=653913أن nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله قال: « لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال »، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(14 ) 13 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
عبد الله بن كعب قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=652552سمعت nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك يقول: قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من [ ص: 80 ] مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » قلت: أمسك سهمي الذي بخيبر.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره على وقف بعض ماله، وهذا الحديث عقد له الإمام البخاري بابا أسماه: باب إذا تصدق، أو وقف بعض ماله، أو بعض رقيقه، أو دوابه فهو جائز.
(15 ) 14 - ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=11834أبي التياح قال: حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك رضي الله عنه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650410لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر بالمسجد وقال: « يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا ». قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم صدقتهم هذه، وقبلها.