التفسير:
قوله تعالى:
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه قيل: هو لمن تقدم ذكره من السارق والسارقة، والمعنى على هذا عند أكثر العلماء: أن
توبته تمحو عنه إثم فعله، ولا يسقط عنه الحد، وقد تقدم الاختلاف فيه.
وقيل: المراد به: الكفار،
وتوبة الكافر تدرأ الحد عنه.
[ ص: 458 ] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته.
وقيل: المراد به: اليهود الذين قالوا:
نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية:
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: يعني: المنافقين، قال: وقوله:
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يعني به: اليهود، ويعني: أنهم عيون لقوم آخرين لم يأتوك.
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: معنى
سماعون للكذب : قائلون له.
سماعون لقوم آخرين : أرسلوا بهم في قصة الزانيين .
يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه أي: إن أفتاكم
محمد بالجلد; فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم; فلا تقبلوه.
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: إنما كان ذلك في قتيل منهم، فقالوا: إن أفتاكم بالدية; فاقبلوا وإن أفتاكم بالقود; فاحذروه، قال: وكان القتيل من
بني قريظة، قتله
بنو النضير، وكانت
النضير إذا قتلت قتيلا; أدت الدية، وإن قتل لهم قتيل; لم
[ ص: 459 ] يرضوا إلا بالقود; فأرادوا أن يرفعوا أمر القتيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم منافق: إن قبلت منكم الدية; فأعطوها; فإن
محمدا يحكم عليكم بالقود.
وقيل: إن معنى
سماعون للكذب : سماعون من أجل الكذب; أي: إنما يسمعون منك; ليكذبوا عليك، روي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج.
وقيل: إن قوله:
لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر : نزل في
أبي لبابة، حين أشار إلى
بني قريظة إذ أرادوا أن ينزلوا على حكم
سعد أنما هو الذبح.
وقيل: نزلت في
عبد الله بن صوريا، حين ارتد عن الإسلام.
وقيل: إن السماعين للكذب: يهود
فدك، والذين لم يأتوا: يهود
المدينة. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا : أصل (الفتنة): الاختبار.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: معناها ههنا: العذاب.
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي: المعنى: من يرد الله إضلاله.
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: المعنى: من يرد الله فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه.
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم : هذا بيان أن الله عز وجل قضى عليهم بالكفر.
[ ص: 460 ] لهم في الدنيا خزي قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة، فوجدوا فيها الرجم.
وقوله:
سماعون للكذب أكالون للسحت : يجوز أن يكون
سماعون للكذب ، الثاني تأكيدا للأول، ويجوز أن يكون معنى الأول: يسمعون من أحبارهم تحريفهم، ومعنى الثاني: يسمعون ما تقول; ليكذبوا عليك.
و (السحت): الرشا، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود وغيره، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=887594السحت: الرشوة في الحكم ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أيضا أنه قال: (السحت): أن يقضي الرجل لأخيه حاجة، فيهدي إليه هدية; فيقبلها.
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه أنه قال: (السحت): الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وعسب
[ ص: 461 ] الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، والاستجعال في المعصية.
وأصل (السحت): الاستئصال، أسحت الله المال إسحاتا، وسحته; إذا استأصله، فسمي ما يأخذونه من الرشا سحتا; لأنه يسحت أديانهم، ويؤديهم إلى عذاب الاستئصال، ومن جعل كسب الحجام وما ذكر معه سحتا; فمعناه: أنه يسحت مروءة آخذه.
وقوله تعالى:
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك أي: من بعد حكم الله الذي في التوراة، وقيل: من بعد تحكيمهم إياك.
وفي هذه الآية، وفي قوله:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس دليل على أن
شرائع الأنبياء المتقدمة لازمة لنا، ما لم تنسخ. وما أولئك بالمؤمنين أي: من تولى عن حكم الله; فليس بمؤمن.
وقوله:
فيها هدى ونور : (الهدى والنور): بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام الحلال والحرام.
وقوله:
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا : [قيل: معنى
[ ص: 462 ] الآية: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ].
وقيل: المعنى: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، وعليهم)، فحذف (وعليهم) .
وقيل: (اللام) بمعنى: (على)، والمعنى: يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، وكذلك قيل في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر
بريرة: nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشترطي لهم الولاء : إن معناه: عليهم، وكذلك قيل في قوله تعالى:
وإن أسأتم فلها : معناه: فعليها.
ومعنى (أسلموا): استسلموا لأمر الله عز وجل، وانقادوا.
والربانيون والأحبار أي: ويحكم بها الربانيون والأحبار; وهم العلماء.
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: (الربانيون): فوق العلماء.
قال بعض أهل اللغة: معنى (الربانيين): أرباب العلم، والألف والنون للمبالغة.
وواحد (الأحبار): (حبر)، [مأخوذ من: التحبير; وهو التحسين، فهم يحبرون العلم.
[ ص: 463 ] nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: يقال للعالم: حبر]، وحبر، وسمي المداد حبرا على معنى: مداد حبر; لأنه يحبر به.
وقوله:
بما استحفظوا من كتاب الله أي: بما استودعوا من علمه، والباء متعلقة بـ (الربانيين والأحبار)، كأنه قال: العلماء بما استحفظوا من علمه، أو تكون متعلقة بـ (يحكم) ; أي: يحكمون بما استحفظوا.
وكانوا عليه شهداء أي: شهداء على الحكم أنه من عند الله .
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة.
ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: هذا خاص فيمن جحد حكم الله تعالى.
وقيل: هو في اليهود خاصة; لجحودهم حكم الله تعالى، وعدولهم عن
أحكامه.
وقيل: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله، من المسلمين، ومن
[ ص: 464 ] اليهود، والكفار، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن، وغيرهما، ومعنى هذا القول: أن يكون
الحاكم بغير ما أنزل الله معتقدا استحلال ما فعله، فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه راكب محرما; فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.
وقوله:
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم أي: على آثار النبيين الذين أسلموا.
وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه : يجوز أن يكون مستأنفا، ويجوز أن يكون على إضمار القول; المعنى: وقلنا لهم: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه; ومعنى الآية: أنهم أمروا أن يحكموا بما في الإنجيل مما لم ينسخ بشريعة
محمد صلى الله عليه وسلم.
وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه (المهيمن): الأمين، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن وغيرهما، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير: معناه: مؤتمن، وهو بمعنى الأول.
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: معناه: الشاهد، وقيل: الحافظ.
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن، فهو مهيمن; إذا كان حافظا له.
[ ص: 465 ] nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد: أصله: مؤيمن، أبدل من الهمزة هاء.
والمراد بـ (المهيمن) ههنا في قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن، وغيرهما: الكتاب، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: المراد به: النبي صلى الله عليه وسلم.
و (الشرعة) و (الشريعة): الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى [النجاة، و"الشريعة" في اللغة: الطريق الذي يتوصل به إلى] الماء.
و (المنهاج): الطريق المستبين، وهو النهج، والمنهج.
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن، وغيرهما:
شرعة ومنهاجا : سنة وسبيلا.
ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والأصل التوحيد، ولا اختلاف فيه، روي معنى ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: (الشرعة والمنهاج): القرآن لجميع الناس.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية: على أن شرائع الأنبياء غير لازمة لنا إلا أن نؤمر باتباعها، وهذا خلاف القول الذي قدمناه قبل هذا.