وقد تقدم شرح هذا الحديث هناك أيضا. وهذا الحديث فيه ذكر الأم الميتة.
وأما الأب، فقد ورد فيه حديث أبي هريرة "رضي الله عنه"، عند مسلم، بلفظ: (أن رجلا قال للنبي "صلى الله عليه وآله وسلم": إن أبي مات وترك مالا، ولم يوص. فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال: "نعم. )
[ ص: 205 ] وفي هذين الحديثين: جواز الصدقة عن الميت، واستحبابها، وأن ثوابها يصله وينفعه، وينفع المتصدق أيضا.
قال النووي: وهذا كله أجمع عليه المسلمون، انتهى.
قال في جمع التشتيت: وأما وصول ثواب الصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه".
وأما وصول ثواب الحج، ففي البخاري عن ابن عباس، بلفظ: (إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت. أفأحج عنها ؟ قال: "حجي عنها" ) .
وقد وقع الإجماع، على أن قضاء الدين عن الميت، من أي قاض قريب أو حبيب، من غير تركته أو منها: يسقطه عن ذمته.
وأجمعوا أيضا: أن الحي إذا كان له حق عند الميت، فأسقطه عنه وأبرأه: أنه ينفعه. وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط: انتفع مما يهدى له من ثواب الأعمال.
قال: ويوضحه: أن العبادة ثلاثة أقسام؛ بدنية، ومالية، ومركبة منهما.
فنبه الشارع بوصول الصوم: على وصول سائر العبادات البدنية.
[ ص: 206 ] ونبه بوصول الصدقة: على وصول سائر العبادات المالية. ونبه بوصول الحج المركب منهما: على وصول ما كان كذلك.
فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار. ثم ذكر أدلة من منع من ذلك، وقال: فهذه اثنا عشر دليلا، قد أجبت عنها جميعها.
قال: وإذا انتهى بنا القول إلى هنا، علمت قوة القول بأنه يصل إلى الميت: كل ما أهداه له الحي: من قربة؛ من صلاة، وصيام، وتلاوة قرآن، وحج، وغير ذلك من كل ما يؤجر فيه العبد، ويجعله لأخيه من باب الإحسان والصلة والبر. وأحوج خلق الله إلى الصلة: هو الميت، رهين الثرى. الذي قد يتعذر عليه فعل كل طاعة. ثم إن إهداءه لأخيه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
فمن أهدى إليه مثلا: ثواب صوم يوم، أو تلاوة قراءة جزء من القرآن: أعطاه الله تعالى أجر صوم عشرة أيام، وأجر تلاوة عشرة أجزاء.
ومن هنا يظهر: أن جعل طاعته لغيره: أفضل من ادخارها لنفسه. ولذا أقر "صلى الله عليه وآله وسلم" لمن قال له: أجعل لك صلاتي كلها. وقال له: "إذا تكفى همك". وقد فعله هذا الصحابي لأشرف خلق الله. ومن أين لك: أنه لم يفعل السلف ذلك ؟ فإنه لا يشترط في هذه الهبة: إشهاد الناس عليها، ولا إخبارهم بها.
وهب: أنه ما فعل هذا أحد منهم، فإنه لا يقدح فيهم. فإنه مندوب لا واجب. ولأنه قد ثبت لنا: دليل جواز فعله، سواء سبقنا إليه أحد [ ص: 207 ] أو لا. ثم إن ابن القيم، قد جعل من أدلة وصول الإهداء: الدعاء، والاستغفار، وصلاة الجنازة. وهذا كله قد فعل السلف له "صلى الله عليه وآله وسلم"، وأمرهم به، وأن يدعوا له بإتيان الفضيلة والوسيلة. وأمرهم: بالصلاة عليه، وهو دعاء مثله، مشروع إلى يوم الدين.
قال: وهذا عندنا شيء مقطوع به. فقد وصلنا جماعة من قرابتنا ومشائخنا "رحمهم الله تعالى": بصلات من دعاء، أو تلاوة، أو صدقة. ورأيناهم في المنام، شاكرين لما صنعناه. وظهر لنا نفعهم ما أسديناه.
قال عبد الحق: إن ابن عمر "رضي الله عنهما" أوصى: أن يقرأ عند قبره "سورة البقرة". وكان أحمد ينكر ذلك، فلما بلغه هذا الأثر: رجع عنه.
وعن الحجاج بن دينار يرفعه: "أن من البر بعد البر: أن تصلي عنهما، مع صلاتك. وأن تصوم عنهما مع صيامك. وأن تصدق عنهما مع صدقتك". أخرجه ابن أبي شيبة.
قال القرطبي: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : "اقرأوا على موتاكم يس" يحتمل: أن تكون هذه القراءة عند الميت، حال موته. ويحتمل: أن تكون عند قبره. قال السيوطي: وبالأول: قال الجمهور.
قلت: ورجحه ابن القيم "رحمه الله": بوجوه من الترجيحات.
[ ص: 208 ] وبالثاني: قال عبد الواحد المقدسي. قال: فهذه وأمثالها، من أحاديث مرفوعات، ومنامات صالحات: دالة على انتفاع الأموات مما يهدى لهم من الأحياء.
والمنامات، وإن كانت مجردها لا تكون دليلا، لكن كما قال العلامة ابن القيم: إنها على كثرتها، بحيث لا يحصيها إلا الله تعالى: قد تواطأت على هذا المعنى. وقد قال رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم": "إن رؤياكم قد تواطأت على هذا. إنها في العشر الأواخر"، يعني: ليلة القدر. انتهى حاصله.