(عن بريدة ) رضي الله عنه : (أن ماعز ) بالعين والزاي (بن مالك الأسلمي ، أتى رسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم فقال : يا رسول الله ! إني قد ظلمت نفسي وزنيت. وإني أريد أن تطهرني. فرده. فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله ! إني قد زنيت. فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم إلى قومه ، فقال : " أتعلمون بعقله بأسا ، تنكرون منه شيئا ؟ " فقالوا : ما نعلمه : إلا وفي العقل ، من صالحينا ، فيما نرى ) .
[ ص: 353 ] وفي رواية : " فسأل : أبه جنون ؟ فأخبر بأنه ليس بمجنون " وفي أخرى : " ما نعلم به بأسا ".
وفيه : دليل على أنه ؛ يجب على الإمام : الاستفصال والبحث ، عن حقيقة الحال. ولا يعارض هذا ، عدم استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة العسيف. لأن عدم ذكره فيها ، لا يدل على العدم. لاحتمال : أن يقتصر الراوي على نقل بعض الوقائع..
(فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضا ، فسأل عنه ؟ فأخبروه : أنه لا بأس به ، ولا بعقله.
وإنما سأل عنه ، ليتحقق حاله. فإن الغالب : أن الإنسان لا يصر على الإقرار بما يقتضي قتله من غير سؤال. مع أن له طريقا إلى سقوط الإثم بالتوبة. وتكرار السؤال عنه : مبالغة في تحقق حاله ، وفي صيانة دم المسلم.
وفيه : أن إقرار المجنون باطل، وأن الحدود لا تجب عليه. قال النووي : وهذا كله ، مجمع عليه.
(فلما كان الرابعة : حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم (.
والحفر للمرجوم والمرجومة ، فيه مذاهب ؛ [ ص: 354 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد (في المشهور عنهم ) لا يحفر لواحد منهما.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ) ، nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة في رواية : يحفر لهما.
أحدها : يستحب الحفر لها ، إلى صدرها ، ليكون أستر لها.
والثاني : لا يستحب ولا يكره. بل هو إلى خيرة الإمام.
والثالث : يستحب ، إن ثبت زناها بالبينة. لا بالإقرار. ليمكنها الهرب ، إن رجعت.
[ ص: 355 ] قال النووي : وهو الأصح. انتهى. ثم ذكر أدلة هذه المذاهب.
قال في النيل : والظاهر : مشروعية الحفر. وعلى فرض عدم إمكان الجمع بين الروايات. أي : التي فيها "يحفرو ، أو لم يحفروا " فالواجب : تقديم رواية الإثبات على النفي.
وفي حديث خالد بن (اللجلاج ) التصريح بالحفر ، بدون تسمية المرجوم. وكذا حديثه أيضا في الحفر للغامدية. انتهى حاصله.
(قال فجاءت الغامدية ، فقالت : يا رسول الله ! إني قد زنيت فطهرني. وإنه ردها. فلما كان الغد قالت : يا رسول الله !لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا. فوالله ! إني لحبلى. قال : إما لا ) بكسر الهمزة ، من " إما " ، وتشديد الميم. وبالإمالة. معناه : إذا أبيت أن تستري على نفسك وتتوبي ، وترجعي عن قولك : (فاذهبي حتى تلدي ) ، فترجمين بعد ذلك.
وفي رواية أخرى : "حتى تضعي ما في بطنك".
وفيه : أنه لا ترجم " الحبلى " حتى تضع. سواء كان حملها من زنا ، أو غيره. قال النووي : وهذا مجمع عليه. لئلا يقتل جنينها.
[ ص: 356 ] وكذا لو كان حدها الجلد " وهي حامل " : لم تجلد بالإجماع حتى تضع.
وهذا الحديث : محمول على أنها كانت محصنة ، لأن الأحاديث الصحيحة ، والإجماع ) متطابقان على أنه : لا يرجم غير المحصن.
وفيه : أن من وجب عليها قصاص " وهي حامل " : لا يقتص منها ، حتى تضع. وهذا مجمع عليه. ثم لا ترجم الحامل الزانية ، ولا يقتص منها بعد وضعها ، حتى تسقي ولدها " اللبأ " أو يستغني عنها بلبن غيرها .
وفيه : أن الحمل يعرف ويحكم به. قال : وهذا هو الصحيح في مذهبنا. انتهى. (قال : فلما ولدت ، أتته بالصبي في خرقة. قالت : هذا ، قد ولدته. قال : " فاذهبي " فأرضعيه ، حتى تفطميه " ) . [ ص: 357 ] قال أهل اللغة : " الفطام " : قطع الإرضاع ، لاستغناء الولد عنه.
(فلما فطمته ، أتته بالصبي في يده كسرة خبز. فقالت : هذا ، يا نبي الله ! قد فطمته ، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ) .
وفي رواية أخرى : " فقام رجل من الأنصار ، فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ! قال : فرجمها " وظاهرهما : " التعارض ".
قال النووي "جمعا بينهما " : وإنما قاله بعد الفطام. وأراد بالرضاعة : كفالته وتربيته. وسماه " رضاعا " : مجاز.
قال : ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد وإسحاق ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك : أنها لا ترجم ، حتى تجد من ترضعه. فإن لم تجد : أرضعته حتى تفطمه ، ثم رجمت.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك في رواية عنه : إذا وضعت رجمت. ولا ينتظر حصول مرضعة. وأما هذا الأنصاري الذي كفلها ، فقصد مصلحة (وهو الرفق بها ، ومساعدتها على تعجيل طهارتها بالحد ) ، لما رأى بها من الحرص التام على تعجيل ذلك. انتهى.
قلت : وفي نيل الأوطار : ويبقى الإشكال في رواية : " أنه [ ص: 358 ] رجمها عند الولادة ، ولم يؤخرها " ، ورواية : " أنه أخرها إلى الفطام" ، وقد قيل : إنهما روايتان صحيحتان ، والقصة واحدة ، ورواية التأخير رواية صحيحة صريحة ، لا يمكن تأويلها : فيتعين تأويل الرواية القاضية بأنها رجمت عند الولادة ، بأن يقال : فيها طي ، وحذف. والتقدير : أن وليها جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الولادة ، فأمر بتأخيرها إلى الفطام. ثم أمر بها فرجمت. قال : ولا يخفى أن هذا وإن تم باعتبار حديث " nindex.php?page=showalam&ids=40عمران " ، فلا يتم باعتبار حديث " بريدة " ، فإن فيه : قول الأنصاري : " إلي رضاعه ، فرجمها ". ويبعد أن يقال : إن هذا لا يدل على أنه قبل قوله " وكفالته " بل أخرها إلى الفطام ، ثم أمر برجمها بعد ذلك. لأن السياق يأبى ذلك كل الإباء. وما أكثر ما يقع مثل هذا الاختلاف بين الصحابة ، في القصة الواحدة التي مخرجها متحد بالاتفاق ! ثم ترتكب لأجل الجمع بين رواياتهم : العظائم التي لا تخلو في الغالب من تعسفات وتكلفات. كأن السهو ، والغلط ، والنسيان : لا يجري عليهم. وما هم إلا كسائر الناس في العوارض البشرية. فإن أمكننا الجمع بوجه سلم عن التعسفات ، فذاك. وإلا توجه علينا : المصير إلى الترجيح ، وحمل الغلط أو النسيان على الرواية المرجوحة. إما من الصحابي ، أو ممن هو دونه من الرواة.
قال : وقد مر لنا في هذا الشرح : عدة مواطن من هذا القبيل ، [ ص: 359 ] مشينا فيها على ما مشى عليه الناس : من الجمع بوجوه ينفر عن قبولها كل طبع سليم. ويأبى الرضاء بها : كل عقل مستقيم. انتهى.
وأقول : هكذا وقع لنا أيضا في هذا الشرح ، فلتكن فيه على ذكر والذي يقضي به هذا التقرير في هذا المقام : هو ترجيح رواية التأخير إلى الفطام. والله أعلم.
(ثم أمر بها ، فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها. فيقبل nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد بحجر ، فرمى رأسها ، فتنضح الدم ) روي بالحاء المهملة ، وبالمعجمة. والأكثرون على المهملة. ومعناه : ترشش وانصب (على وجه خالد ، فسبها. فسمع نبي الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم سبه إياها ، فقال : " مهلا ! يا خالد ! فوالذي نفسي بيده ! لقد تابت توبة ، لو تابها صاحب مكس لغفر له " ) .
"والمكس" بفتح الميم ، وسكون الكاف بعدها مهملة. " وصاحب المكس " : هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس ، بغير حق. قال في القاموس : مكس في البيع ، يمكس : إذا جبى مالا. " والمكس ": [ ص: 360 ] النقص والظلم. ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية. أو درهم كان يأخذه " المصدق " بعد فراغه من الصدقة.
وفيه : أن توبة الزاني ، لا تسقط عنه حد الزنا. وكذا حكم حد السرقة ، والشرب. قال النووي : هذا أصح القولين : في مذهبنا ، ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك.
وأما رواية الباب ؛ فقال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض : " هي بفتح الصاد واللام " عند جماهير رواة صحيح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم. قال : وعند nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : " بضم الصاد " [ ص: 361 ] قال : وكذا هو في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة ، nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبي داود. وفي رواية له :
ثم أمرهم : أن يصلوا عليها ". قال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض : ولم يذكر nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم : " صلاته صلى الله عليه وآله وسلم ، على ماعز " وقد ذكرها nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري.
واختلف العلماء ، في الصلاة على المرجوم ؛ فكرهها nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد : للإمام ، ولأهل الفضل ، دون باقي الناس. وقال الشافعي ، وآخرون : يصلي عليه الإمام ، وأهل الفضل وغيرهم. والخلاف بين nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك ؛ إنما هو في الإمام ، وأهل الفضل.
وأما غيرهم ، فاتفقا على أنه يصلي. وبه قال جماهير العلماء. قالوا : فيصلي على الفساق ، والمقتولين في الحدود والمحاربة ، وغيرهم.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : لا يصلي أحد ، على المرجوم وقاتل نفسه. وقال nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : لا يصلى على ولد الزنا..
واحتج الجمهور بهذا الحديث. وفيه دلالة nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي : أن الإمام وأهل الفضل يصلون على المرجوم ، كما يصلي عليه غيرهم.
وأجاب المالكية : بضعف الرواية ، لكون أكثر الرواة لم يذكروها.
وقالوا : إنه صلى الله عليه وآله وسلم ، أمر بالصلاة ، أو دعا. فسمي صلاة ، على مقتضاها في اللغة.
وهذا الجواب فاسد. لأن هذه الزيادة ثابتة. في الصحيح. وزيادة [ ص: 362 ] الثقة مقبولة ، والتأويل ، إنما يصار إليه ، إذا اضطربت الأدلة الشرعية إلى ارتكابه. وليس هنا شيء من ذلك ، فوجب حمله على ظاهره.