وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة. فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا. ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
(الشرح)
(عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة) رضي الله عنه ; (قال : بعث رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة) هي قبيلة كبيرة مشهورة ، ينزلون اليمامة بين مكة واليمن .
(يقال له ثمامة) بضم المثلثة (بن أثال) بضم الهمزة ، ومثلثة خفيفة . وهو مصروف . وهو ابن النعمان بن مسيلمة الحنفي . وهو من فضلاء الصحابة (سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد) .
وفي هذا : جواز ربط الأسير وحبسه ، وجواز إدخال الكافر المسجد . ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : جوازه بإذن nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ، سواء كان الكافر كتابيا أو غيره .
وقال قتادة ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك : لا يجوز . وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : يجوز لكتابي دون غيره . وهذا الحديث دليل عليهم .
(فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، فقال له: " ماذا عندك ؟ يا ثمامة! ") يحتمل : أن تكون "ما " استفهامية ، و"ذا " موصولة ، و "عندك " صلة . أي : ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك ؟ فأجاب بأنه ظن خيرا (وقال : عندي يا محمد ! خير) لأنك لست ممن يظلم ، بل ممن يعفو ويحسن.
(إن تقتل تقتل ذا دم) بمهملة وتخفيف الميم للأكثر . وللكشميهني : "ذم " بمعجمة ، بعدها ميم مشددة .
قال النووي : معنى رواية الأكثر : إن تقتل تقتل صاحب دم ، لدمه موقع يستشفي قاتله بقتله ، ويدرك قاتله به ثأره . أي : لرياسته وعظمته وفضيلته . وحذف هذا لأنهم يفهمونه في عرفهم .
ويحتمل : أن يكون المعنى : عليه دم ، وهو مطلوب به ، وهو مستحق عليه ، فلا لوم عليك في قتله .
وأما الرواية بالمعجمة ، فمعناها : "ذا ذمة) " . وثبت ذلك في رواية nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود . وضعفها nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض بأنه يقلب المعنى . لأنه إذا كان ذا ذمة [ ص: 61 ] يمتنع قتله . قال النووي : ويمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول .
أي : تقتل رجلا جليلا، يحتفل قاتله بقتله . بخلاف ما إذا قتل ضعيفا مهينا ، فإنه لا فضيلة في قتله ، ولا يدرك به قاتله ثأره .
والمراد بالذمة : الحرمة في قومه . وأوجه الجميع : الثاني لأنه مشاكل لقوله بعد ذلك (وإن تنعم تنعم على شاكر) .
وجميع ذلك تفصيل لقوله : ( عندي خير ) وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الأمر .
(وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان بعد الغد . فقال : " ما عندك ؟ يا ثمامة ! " قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر . وإن تقتل تقتل ذا دم . وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم حتى كان من الغد . فقال : " ماذا عندك ؟ يا ثمامة !") كرر ذلك ثلاثة أيام . وهذا من باب تأليف القلوب ، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف ، الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير .
(فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر . وإن تقتل تقتل ذا دم . وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت) .
قدم في اليوم الأول : القتل . وفي اليومين الآخرين : الإنعام .
[ ص: 62 ] وفي ذلك نكتة . وهي أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه . وأشفاهما لصدر خصومه ، وهو القتل . فلما لم يقع ، قدم الإنعام استعطافا . وكأنه رأى في اليوم الأول أمارات الغضب ، دون اليومين الآخرين.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم : " أطلقوا ثمامة ") .
وبالجملة ، ففي إطلاقه دليل على جواز المن على الأسير . وهو مذهب الجمهور . وبه قالت الشافعية .
(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد) . هكذا هو في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم وغيرهما : " نخل " بالخاء المعجمة . وتقديره : انطلق إلى نخل فيه ماء .
قال بعضهم : صوابه : " نجل " بالجيم ، وهو الماء القليل المنبعث .
وقيل : الجاري .
قال النووي : بل الصواب الأول . لأن الروايات صحت به ، ولم يرو إلا هكذا . وهو صحيح لا يجوز العدول عنه .
(فاغتسل) قالت الشافعية : إذا أراد الكافر الإسلام ، بادر به [ ص: 63 ] ولا يؤخره للاغتسال ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره ، بل يبادر به ، ثم يغتسل .
قال النووي : ومذهبنا : أن اغتساله واجب ، إن كان عليه جنابة في الشرك ، سواء كان اغتسل منها أم لا. وقيل : إن كان اغتسل أجزأه ، وإلا وجب .
وقال بعض المالكية : لا غسل عليه . ويسقط حكم الجنابة بالإسلام ، كما تسقط الذنوب . وضعفوا هذا بالوضوء ، فإنه يلزمه بالإجماع . ولا يقال : يسقط أثر الحدث بالإسلام . هذا كله إذا كان أجنب في الكفر . أما إذا لم يجنب أصلا ، ثم أسلم : فالغسل مستحب له وليس بواجب . هذا مذهب الشافعية ، ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وآخرين . وقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وآخرون : يلزمه الغسل .
(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة . فماذا ترى ؟ فبشره صلى الله عليه) وآله (وسلم ، وأمره أن يعتمر) يعني : بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام ، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله . وأما أمره بالعمرة ، فاستحباب . لأن العمرة مستحبة في كل وقت ، لاسيما من هذا الشريف المطاع ، إذا أسلم وجاء مراغما لأهل مكة ، فطاف وسعى وأظهر إسلامه ، وأغاظهم بذلك .
وقال في النيل : بشره بخير الدنيا والآخرة . أو بشره بالجنة .
أو محو ذنوبه وتبعاته السابقة . انتهى .
(فلما قدم مكة ، قال له قائل : أصبوت ؟ هكذا هو في الأصول : " أصبوت ؟ " وهي لغة . والمشهور : " أصبأت ؟" بالهمزة . وعلى الأول جاء قولهم : " الصباة " . كقاض وقضاة . وهذا اللفظ كانوا يطلقونه على من أسلم . وأصله يقال لمن دخل في دين الصابئة . وهم فرقة معروفة . (فقال : لا . ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) . كأنه قال : لا . ما خرجت من الدين . لأن عبادة الأوثان ليس دينا ، فإذا تركتها أكون قد خرجت من دين . بل استحدثت دين الإسلام .
[ ص: 65 ] وقوله : " مع محمد " أي : وافقته على دينه ، فصرنا متصاحبين في الإسلام .
ربط الكافر في المسجد ، والمن على الأسير الكافر ، وتعظيم أمر العفو عن المسيء ، لأن ثمامة أقسم أن بغضة القلب انقلبت حبا في ساعة واحدة ، لما أسداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه من العفو والمن ، بغير مقابل .