قال النووي : قال العلماء: الرضى والسخط والكراهة من الله تعالى، المراد بها: أمره ونهيه، وثوابه وعقابه. أو إرادته الثواب لبعض العباد، والعقاب لبعضهم. انتهى. وهذا هو التأويل الذي اختاره الخلف. وأما السلف فمذهبهم ومختارهم: الإيمان بظاهر هذه الصفات; من غير تشبيه. ولا تعطيل. ولا تكييف. ولا تمثيل:
وهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق
قال: وأما الاعتصام بحبل الله; فهو التمسك بعهده. وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده، والتأدب بأدبه. "والحبل": يطلق على "العهد"، وعلى "الأمان"، وعلى "الوصلة"، وعلى "السبب". وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور، لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم، ويوصلون به المتفرق، فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور.
[ ص: 355 ] وفي قوله: "لا تفرقوا": أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتألف بعضهم ببعض. وهذه إحدى قواعد الإسلام.
واعلم أن الثلاثة المرضية:
إحداها: أن يعبدوه.
الثانية: أن لا يشركوا به شيئا.
الثالثة: أن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا.
وأما "قيل وقال": فهو الخوض في أخبار الناس، وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم.
واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين;
أحدهما: أنهما فعلان. "فقيل" مبني لما لم يسم فاعله. "وقال" فعل ماض.
والثاني: أنهما اسمان مجروران منونان; لأن: "القيل والقال والقول والقالة" كله بمعنى. ومنه قوله تعالى: ومن أصدق من الله حديثا . ومنه قولهم: "كثير القيل والقال".
وقيل: المراد به: سؤال الناس أموالهم، وما في أيديهم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك.
وقيل: يحتمل أن المراد: كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، وما لا يعني الإنسان. وهذا ضعيف; لأنه قد عرف هذا من النهي عن "قيل وقال".
وقيل: يحتمل أن المراد: كثرة سؤال الإنسان عن حاله، وتفاصيل أمره. فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسئول. فإنه قد لا يؤثر إخباره بأحواله. فإن أخبره: شق عليه. وإن كذبه في الأخبار، أو تكلف التعريض: لحقته المشقة. وإن أهمل جوابه: ارتكب سوء الأدب. انتهى.
وأقول: لا مانع من حمل الحديث على تلك المعاني كلها، فإنه صدر من مشكاة النبوة التي أوتيت جوامع الكلم.
قال: "وأما إضاعة المال": فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف. وسبب النهي: أنه إفساد، والله لا يحب المفسدين. ولأنه إذا أضاع ماله: تعرض لما في أيدي الناس.
قال النووي : وفيه: دليل على أن الكراهة في هذه الثلاثة الأخيرة للتنزيه، لا للتحريم. انتهى. قلت: وهذه الثلاثة من مساوئ الأخلاق. كما أن الثلاثة الأولى من عزائمها. ومقابلة هذه بهذه تدل على التحريم. فإن العبادة، وعدم الشرك، والاعتصام بحبل الله: مما هو مفترض على العباد. فينبغي أن تكون هذه محرمة عليهم. لكن هذا الحديث: صرف الكراهة من التحريم إلى التنزيه.