قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعبرها" قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته [ ص: 476 ] ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبت أم أخطأت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت؟ قال "لا تقسم".
(الشرح)
(عن nindex.php?page=showalam&ids=16523عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس) رضي الله عنهما (كان يحدث: أن رجلا) قال في الفتح: لم أقف على اسمه.
(أتى النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم) وفي رواية أخرى: (قال: جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، منصرفه من أحد، فقال: يا رسول الله! إني أرى الليلة) قال nindex.php?page=showalam&ids=15611ثعلب وغيره: يقال: "رأيت الليلة": من الصباح إلى زوال الشمس. ومن الزوال إلى الليل: "رأيت البارحة".
[ ص: 477 ] (في المنام ظلة): بضم الظاء وتشديد اللام: سحابة؛ لأنها تظل ما تحتها. وزاد nindex.php?page=showalam&ids=14274الدارمي، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه: "ما بين السماء والأرض".
(وأرى سببا) "السبب": الحبل (واصلا) "الواصل": بمعنى الموصول (من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به، فعلوت): وفي لفظ آخر: "فأعلاك الله).
(ثم أخذ به رجل من بعدك)، أي: بالسبب، (فعلا. ثم أخذ به رجل آخر، فعلا. ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع به، ثم وصل له، فعلا. قال أبو بكر) الصديق، رضي الله عنه: (يا رسول الله! بأبي أنت!) مفدي (والله! لتدعني) بفتح اللام للتأكيد، وكسر النون المشددة. أي: لتتركني (فلأعبرنها) وكان من أعبر الناس للرؤيا، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "اعبرها". قال أبو بكر: أما الظلة، فظلة الإسلام) لأن الظلة، نعمة من نعم الله، على أهل الجنة. وكذلك كانت على بني إسرائيل. وكذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم: تظله الغمامة قبل نبوته. وكذلك الإسلام يقي الأذى، وينعم به المؤمن، في الدنيا والآخرة.
(وأما الذي ينطف من السمن [ ص: 478 ] والعسل: فالقرآن; حلاوته ولينه) قال تعالى في العسل: فيه شفاء للناس وقال في القرآن: وشفاء لما في الصدور ولا ريب أن تلاوة القرآن: تحلو في الأسماع، كحلاوة العسل في المذاق، بل أحلى منه وألين.
(وأما ما يتكفف الناس من ذلك: فالمستكثر من القرآن، والمستقل منه. وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض: فالحق الذي أنت عليه. تأخذ به، فيعليك الله به) أي: يرفعك به (ثم يأخذ به رجل من بعدك، فيعلو به) فسر بالصديق رضي الله عنه؛ لأنه يقوم بالحق بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، في أمته.
(ثم يأخذ به رجل آخر، فيعلو به) هو nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب، رضي الله عنه (ثم يأخذ به رجل آخر، فينقطع به) هو nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان، رضي الله عنه (ثم يوصل له، فيعلو به) يعني: nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان، كاد ينقطع عن اللحاق بصاحبيه، بسبب ما وقع له من تلك القضايا، التي أنكروها. فعبر عنها: بانقطاع الحبل، ثم وقعت له الشهادة: فاتصل (فالتحق بهم).
(فأخبرني): بكسر الباء، وسكون الراء (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! أصبت أم أخطأت؟ قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله [ ص: 479 ] (وسلم: "أصبت بعضا، وأخطأت بعضا").
قيل: خطأه في التعبير؛ لكونه عبر بحضوره، صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم أحق بتعبيرها.
وقيل: أخطأ بمبادرته تعبيرها، قبل أن يأمره به. قاله nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة. وتعقب بأنه: أذن له في ذلك، وقال: "اعبرها" وأجيب بأنه: لم يأذن له ابتداء، بل بادر هو بالسؤال: أن يأذن له في تعبيرها; فأذن له. لكن في إطلاق الخطأ على ذلك: نظر. والظاهر: أنه أراد الخطأ في التعبير، لا لكونه التمس التعبير.
قال ابن هبيرة: إنما أخطأ؛ لكونه أقسم ليعبرنها بحضرته، ولو كان أخطأ في التعبير لم يقره عليه.
وقيل: أخطأ؛ لكونه عبر السمن والعسل: بالقرآن فقط. وهما شيئان. وكان من حقه: أن يعبرهما بالقرآن والسنة؛ لأنها بيان للكتاب المنزل عليه، وبهما تتم الأحكام، كتمام اللذة بهما. وإلى هذا أشار nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي.
وقيل: وجه الخطأ، أن الصواب في التعبير: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم; هو الظلة. والعسل: القرآن. والسمن: السنة.
وقيل: يحتمل أن يكون السمن والعسل: العلم، والعمل. وقيل: الفهم، والحفظ.
[ ص: 480 ] وتعقب ذلك في المصابيح، فقال: لا يكاد ينقضي العجب من هؤلاء، الذين تعرضوا إلى تبيين الخطأ في هذه الواقعة، مع سكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عن ذلك، وامتناعه منه، بعد سؤال أبي بكر له في ذلك، حيث (قال: فوالله! يا رسول الله! لتحدثني، ما الذي أخطأت؟ قال: "لا تقسم") فكيف لا يسع هؤلاء من السكوت ما وسع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؟! وماذا يترتب على ذلك من الفائدة؟! فالسكوت عن ذلك هو المتعين. انتهى.
قلت: وقد سبق ذهني إلى هذا القول قبل أن أقف على هذا الكلام. ولله الحمد.
وحكى nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي: أن بعضهم سئل عن بيان الوجه الذي أخطأ فيه أبو بكر، فقال: من الذي يعرفه؟ ولئن كان تقدم أبي بكر بين يدي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، للتعبير: "خطأ" فالتقدم بين يدي أبي بكر، لتعيين خطئه: أعظم، وأعظم. فالذي يقتضيه الدين: الكف عن ذلك.
وأجاب في (الكواكب: بأنهم إنما أقدموا على تبيين ذلك، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يبينه؛ لأن هذه الاحتمالات لا جزم فيها. أو لأنه كان يلزم في بيانه مفاسد للناس، واليوم زال ذلك. انتهى.
وهذا الجواب من الضعف بمكان لا يخفى. والصواب ما تقدم.
قال الحافظ ابن حجر "أثابه الله تعالى": جميع ما ذكر من لفظ الخطأ ونحوه، إنما أحكيه عن قائليه. ولست راضيا بإطلاقه في حق [ ص: 481 ] nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق، رضي الله عنه. انتهى.
قال النووي: هذا الحديث، دليل لما قاله العلماء: إن إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة، إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدة، ولا مشقة ظاهرة. فإن كان لم يؤمر بالإبرار؛ لأن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: لم يبر قسم أبي بكر، رضي الله عنه: لما رأى في إبراره من المفسدة. قال: ولعل المفسدة: ما علمه من سبب انقطاع السبب مع عثمان; وهو قتله، وتلك الحروب والفتن المرتبة عليه، فكره ذكرها؛ مخافة من شيوعها. أو أن المفسدة: لو أنكر عليه مبادرته، ووبخه بين الناس. أو أنه أخطأ في ترك تعيين الرجال، الذين يأخذون بالسبب، بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان في بيانه "صلى الله عليه وآله وسلم" أعيانهم: مفسدة.
[ ص: 482 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض: وفيه: أن من أقسم، لا كفارة عليه؛ لأن nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر: لم يزد على قوله: "أقسم". قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي عجب; فإن الذي في جميع نسخ صحيح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم: أنه قال: "فوالله" وهذا صريح يمين. وليس فيها: "أقسم".