فلما كان من الغد : أتته وهو يصلي . فقالت : يا جريج ! فقال : يا رب ! أمي ، وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت .
فلما كان من الغد : أتته وهو يصلي . فقالت : يا جريج ! فقال : أي رب ! أمي ، وصلاتي . فأقبل على صلاته . فقالت : اللهم ! لا تمته ، حتى ينظر إلى وجوه المومسات . فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته . [ ص: 47 ] وكانت امرأة بغي ، يتمثل بحسنها . فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم . قال : فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها . فأتت راعيا ، كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت . فلما ولدت ، قالت : هو من جريج- ، فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه . فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي ، فولدت منك . فقال : أين الصبي ؟ فجاءوا به . فقال : دعوني حتى أصلي . فصلى . فلما انصرف : أتى الصبي ، فطعن في بطنه ، وقال : يا غلام ! من أبوك ؟ قال : فلان الراعي . قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ، ويتمسحون به . وقالوا نبني لك صومعتك : من ذهب . قال : لا . أعيدوها من طين ، كما كانت . ففعلوا .
وبينا صبي يرضع من أمه . فمر رجل راكب على دابة فارهة ، وشارة حسنة . فقالت : أمه اللهم ! اجعل ابني : مثل هذا . فترك الثدي ، وأقبل إليه ، فنظر إليه ، فقال : اللهم ! لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديه ، فجعل يرتضع .
قال : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يحكي ارتضاعه : بإصبعه السبابة في فمه ، فجعل يمصها .
قال ومروا بجارية ، وهم يضربونها ويقولون : زنيت . سرقت . وهي تقول : حسبي الله ، ونعم الوكيل . فقالت أمه : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فترك الرضاع ، ونظر إليها ، فقال : اللهم ! اجعلني مثلها . فهناك تراجعا الحديث ، فقالت : حلقى ! مر رجل حسن الهيئة ، فقلت : اللهم ! اجعل ابني مثله . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . ومروا بهذه [ ص: 48 ] الأمة -وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت- فقلت : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها .
قال : إن ذاك الرجل كان جبارا . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . وإن هذه يقولون لها : زنيت (ولم تزن) ، وسرقت (ولم تسرق) . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها" ) .
(الشرح)
(عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج) فذكرهم . وليس فيهم : الصبي الذي كان مع المرأة ، في حديث الساحر والراهب ، وقصة أصحاب الأخدود ، المذكور في آخر صحيح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم .
وجوابه : أن ذلك الصبي ، لم يكن في المهد ، بل كان أكبر من صاحب المهد . وإن كان صغيرا .
(فأتته أمه وهو يصلي ، فقالت : يا جريج !) زاد في رواية أخرى : nindex.php?page=hadith&LINKID=661633 "أنا أمك ، كلمني . فصادفته يصلي" . (فقال : يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت ، فلما كان من الغد : أتته ، وهو يصلي ، فقالت : يا جريج !) أنا أمك ، فكلمني (فقال : يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت . فلما كان من الغد : أتته ، فقالت : يا جريج ! فقال يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فقالت : اللهم ! لا تمته ، حتى ينظر إلى وجوه المومسات) . بضم الميم الأولى ، وكسر الثانية . أي : الزواني ، البغايا ، المتجاهرات بذلك . والواحدة : "مومسة" . وتجمع على "مياميس" .
(فتذاكر بنو إسرائيل : جريجا وعبادته ، وكانت امرأة بغي ، يتمثل بحسنها) أي : يضرب بها المثل ، لانفرادها به .
[ ص: 50 ] (فقالت : إن شئتم ، لأفتننه لكم . قال : فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها . فأتت راعيا ، كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت . فلما ولدت ، قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه) .
و"الدير" : كنيسة منقطعة عن العمارة ، تنقطع فيها رهبان النصارى ، لتعبدهم . وهي نحو المنارة . ينقطعون فيها : عن الوصول إليهم ، والدخول عليهم .
و"فؤوس" جمع : "فأس" . وهي هذه المعروفة ، كرأس ورؤوس .
و"المساحي" : جمع "مسحاة" . وهي كالمجرفة ، إلا أنها من حديد .
ذكره الجوهري .
في هذه القصة : أنه آثر الصلاة على إجابتها ، فدعت عليه ، فاستجاب الله لها .
[ ص: 52 ] قال العلماء : هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه : إجابتها ، لأنه كان في صلاة نفل . والاستمرار فيها : تطوع لا واجب . وإجابة الأم وبرها : واجب . وعقوقها : حرام . وكان يمكنه : أن يخفف الصلاة ، ويجيبها . ثم يعود لصلاته . فلعله خشي أنها تدعوه إلى مفارقة صومعته ، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها ، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه .
(وبينا صبي يرضع من أمه ، فمر رجل راكب على دابة فارهة) . بالفاء : النشيطة ، الحادة ، القوية . وقد "فرهت" بضم الراء : فراهة ، وفراهية .
(وشارة حسنة) أي : هيئة جميلة ، ولباس جميل .
(فقالت أمه : اللهم ! اجعل ابني مثل هذا . فترك الثدي ، وأقبل إليه ، فنظر إليه ، فقال : اللهم ! لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديه) إضافة "الثدي" إلى ضمير الصبي : باعتبار أنه يرتضع منه .
(فجعل يرتضع . قال : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، وهو يحكي ارتضاعه : بإصبعه السبابة ، في فمه ، فجعل يمصها) بفتح الميم : على اللغة المشهورة . وحكي ضمها .
(قال : ومروا بجارية ، وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت . وهي تقول : حسبي الله ، ونعم الوكيل . فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها . فترك الرضاع ، ونظر إليها ، فقال : اللهم ! اجعلني مثلها . [ ص: 53 ] فهناك تراجعا الحديث) . معناه : أقبلت على الرضيع ، تحدثه . وكانت أولا لا تراه أهلا للكلام . فلما تكرر منه الكلام : علمت أنه أهل له ، فسألته وراجعته .
(مر رجل حسن الهيئة ، فقلت : اللهم ! اجعل ابني مثله . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . ومروا بهذه الأمة -وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت- فقلت : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها . قال : إن ذاك الرجل ، كان جبارا ، فقلت اللهم ! لا تجعلني مثله . وإن هذه يقولون لها : زنيت (ولم تزن) ، وسرقت (ولم تسرق) . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها) أي : اللهم ! اجعلني سالما من المعاصي ، كما هي سالمة . وليس المراد : مثلها في النسبة إلى باطل ، تكون منه بريئا .
ومنها : أن "الوضوء ، كان معروفا ، في شرع من قبلنا . فقد ثبت في هذا الحديث ، في كتاب nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : nindex.php?page=hadith&LINKID=653181 "فتوضأ وصلى" . وقد حكى nindex.php?page=showalam&ids=14961عياض عن بعضهم ؛ أنه زعم : اختصاصه بهذه الأمة .
وفيه : أن كرامات الأولياء ، قد تقع باختيارهم وطلبهم .
قال النووي : وهذا هو الصحيح ، عند أصحابنا المتكلمين . ومنهم من قال : لا تقع باختيارهم وطلبهم .
وفيه : أن الكرامات ، قد تكون بخوارق العادات ، على جميع أنواعها . ومنعه بعضهم ، وادعى أنها : تختص بمثل إجابة دعاء ، ونحوه . وهذا غلط من قائله ، وإنكار للحس . بل الصواب : جريانها بقلب الأعيان ، وإحضار الشيء من العدم ، ونحوه .