قال في الصحاح : "ظلمه ، يظلمه ، ظلما ، ومظلمة" وأصله : وضع الشيء في غير موضعه .
قال أهل العلم : "الظلامة ، والظلمة ، والمظلمة" : ما تطلبه عند الظالم . وهو اسم ما أخذ منك . و"تظلمني فلان" : أي ظلمني مالي ، و"تظلم منه" : أي اشتكى ظلمه .
و"ظلمت فلانا تظليما" : إذا نسبته إلى الظلم ، فانظلم .
قال زهير :
هو الجواد الذي يعطيك نائله عفوا ويظلم أحيانا فينظلم
باب في تحريم الظلم ، والأمر بالاستغفار والتوبة
وقال النووي : (باب تحريم الظلم) .
(حديث الباب)
وهو بصحيح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم النووي ، ص131 - 133 ج16 ، المطبعة المصرية
(حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي ؛ حدثنا مروان (يعني ابن محمد الدمشقي) ؛ حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد ؛ عن nindex.php?page=showalam&ids=11811أبي إدريس الخولاني ؛ عن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر ؛ nindex.php?page=hadith&LINKID=661682 "عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيما روى عن الله تبارك وتعالى ؛ أنه قال : يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . يا عبادي ! كلكم ضال إلا من هديته ؛ فاستهدوني أهدكم . يا عبادي ! كلكم جائع إلا من [ ص: 209 ] أطعمته ؛ فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي ! كلكم عار إلا من كسوته ؛ فاستكسوني أكسكم . يا عبادي ! إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ؛ فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري ، فتضروني . ولن تبلغوا نفعي ، فتنفعوني . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ؛ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم : ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم : ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ؛ ما نقص ذلك مما عندي : إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي ! إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه" .
قال سعيد : كان nindex.php?page=showalam&ids=11811أبو إدريس الخولاني ؛ إذا حدث بهذا الحديث : جثا على ركبتيه) .
(الشرح)
(عن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر رضي الله عنه) ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -فيما روي عن الله ، تبارك وتعالى) .
فيه : التصريح : بأن هذا الحديث ، من جملة الأحاديث القدسية ، التي رواها صلى الله عليه وآله وسلم : عن الله عز وجل : بواسطة الملك .
[ ص: 210 ] ويمكن : أن يكون ذلك ، بلا واسطة ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم : سمعه من ربه سبحانه . ولا مانع من ذلك .
(أنه قال : يا عبادي) "العباد" : جمع "عبد" . ويجمع أيضا على "أعبد ، وعبدان" : بالضم . مثل "تمر وتمران" . و"عبدان" بالكسر ، مثل : "جحش وجحشان" . و"عبد" بالكسر وتشديد الدال . و"عبداء" ممدودا ، ومقصورا . وعبدون ، وعبيد . قال الجوهري : وهو جمع عزيز . وحكى nindex.php?page=showalam&ids=13673الأخفش : "عبد" مثل : "سقف وسقف" .
قال في القاموس : "العبد" : الإنسان حرا ، كان أو رقيقا ، والمملوك .
وقال الجوهري : إن العبد خلاف الحر . انتهى .
والظاهر -من كلام أهل اللغة ، وكلام أهل الشرع- : أنه لا يطلق "العبد" على الحر ، إلا إذا أضيف إلى الرب عز وجل ، لا على الإطلاق ، كما يشعر به كلام صاحب القاموس .
[ ص: 211 ] والإضافة في "عبادي" : إضافة تمليك ، وتشريف أيضا . والمراد هنا : الأولى .
(إني حرمت الظلم على نفسي) قال النووي : قال العلماء : معناه : تقدست عنه ، وتعاليت .
قال : والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى ، لأنه : التصرف في غير ملك ، أو مجاوزة حد . وكلاهما : مستحيل في حق الله سبحانه . وكيف يجاوز سبحانه حدا ، وليس فوقه من يطيعه ؟
وكيف يتصرف في غير ملك ، والعالم كله في ملكه ، وسلطانه ؟
قال : وأصل التحريم في اللغة : المنع . فسمي تقدسه عن الظلم : "تحريما" ، لمشابهته للممنوع : في أصل عدم الشيء . انتهى .
قلت : الكلام في هذا يطول . وموضعه : "علم الكلام" . وفيه ثلاثة مذاهب محررة ؛
(1) مذهب المعتزلة .
(2) ومذهب الأشعرية .
(3) والتفصيل ، وهو الحق . فهو عز وجل : يمتنع عليه أن ينقص عاملا أجر عمله ، أو يعذبه بغير ذنبه .
(وجعلته) أي الظلم (بينكم محرما ، فلا تظالموا) بفتح التاء ، أي "لا تتظالموا" .
قلت : وحذف المتعلق يشعر بالتعميم . فالمعنى : لا تظالموا بنوع من أنواع الظلم ؛ سواء كان في الأبدان ، أو الأموال ، أو الأعراض ، أو الأديان .
فهذا الحديث ؛ فيه أبلغ تشديد ، وأعظم تأكيد ، وأشد وعيد : على مرتكبي الظلم من العباد ، فإنه سبحانه حرم على عباده المحرمات ، ونهاهم عن المنهيات . ولم يذكر في شيء منها ما ذكره في تحريم الظلم . من إخبارهم أولا بأنه : "حرم الظلم على نفسه" ، ثم إخبارهم ثانيا ، بأنه : "بينهم محرم" ، ثم إخبارهم ثالثا : "بالنهي عنه" . والنهي حقيقة في التحريم .
وفي هذا من تقريع الظلمة ، وتوبيخهم : ما لا يقادر قدره . ولا يبلغ مداه . وذلك بما علمه سبحانه في سابق علمه من كثرة الظلمة في عباده ، وندور العادلين منهم . وهذا يعلمه كل من له اطلاع على أخبار العالم ، وأهله ، ومعرفة بأحوالهم ، وأحوال ملوكهم ، وجميع أرباب المناصب الدينية ، والرياسات الدنيوية . يشك في ذلك شاك ، ولا يرتاب فيه مرتاب .
[ ص: 213 ] وقد أكثر الله سبحانه ، في كتابه العزيز : من تنزيه جنابه المقدس عن الظلم .
[ ص: 215 ] وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : في الكبير ، والأوسط ؛ من حديث "الهرماس بن زياد" .
وأخرج أيضا ؛ من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود" : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "لا تظالموا فتدعوا فلا يستجاب لكم ، وتستسقوا فلا تسقوا ، وتستنصروا فلا تنصروا" .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي ، في البعث -بإسناد جيد- ؛ عن أبي عثمان ، عن nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود -حتى عد ستة ، أو سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله [ ص: 217 ] وسلم - قالوا : "إن الرجل ، لترفع له يوم القيامة : صحيفة ، حتى يرى أنه ناج . فما تزال مظالم بني آدم تتبعه ، حتى ما يبقى له حسنة . ويحمل عليه : من سيئاتهم" .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم -وقال : رواته متفق عليهم ، إلا عاصم بن كليب : فاحتج به nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم وحده- ، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12 "ابن عمر" ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى السماء ، كأنها شرارة" .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان (في صحيحه) ، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم وصححه: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا، كلها: أيها الملك المسلط، المبتلى، المغرور! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني: دعوة المظلوم؛ فإني لا أردها، ولو كانت من كافر» إلى آخر الحديث.
وورد أيضا: ما يدل على وجوب نصرة المظلوم؛ فأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=656438«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه عن ظلمه -أو تمنعه عن الظلم- فإن ذلك نصره».
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم (وصححه) : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=55طلحة بن عبيد الله »: أنه [ ص: 223 ] سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «ألا أيها الناس! لا تقبل الله صلاة إمام جائر».
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بإسناد جيد، (واللفظ له) ، وأبو يعلى، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=9أنس » أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=693278«الأئمة من قريش؛ إن لكم عليهم: حقا، ولهم عليكم حقا مثل ذلك: ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم: فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين».
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بإسناد (رجاله ثقات) ، nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار، وأبو يعلى : من [ ص: 224 ] حديث سيار بن سلامة، عن أبي برزة، يرفعه «نحو الحديث الذي قبله».
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد أيضا بإسناد (رجاله ثقات) ، nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى »: نحوه أيضا. وزاد (بعد اللعن من الله، وملائكته، والناس أجمعين) : أنه nindex.php?page=hadith&LINKID=656756«لا يقبل منه صرفا ولا عدلا».
وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : -بإسناد رجاله رجال الصحيح- nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار: : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=228سعد بن عبادة » وفي إسناده: رجل لم يسم.
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني : (في الأوسط) ، ورجال nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار رجال [ ص: 226 ] الصحيح: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
وأخرجه أيضا - nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : (في الكبير، والأوسط) ورجاله ثقات: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وأخرج نحوه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، بإسناد جيد: من حديث «معاذ».
وأخرج نحوه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد أيضا، بإسناد جيد: من حديث أبي السماح الأزدي، عن ابن عم له -من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم-.
(أقبح أنواع الظلم: ما يرجع إلى الأعراض)
قال العلامة الشوكاني «رحمه الله تعالى»، (في نثر الجوهر، عن حديث أبي ذر) : إن من أقبح أنواع الظلم: ما يرجع إلى الأعراض: من غيبة، أو نميمة، أو شتم، أو قذف. وقد ثبت جعل العرض مقترنا بالدم والمال (في التحريم) . وما أكثر الظلمة للأعراض! فإن الظلمة في [ ص: 230 ] الدماء، والأموال: قليلون بالنسبة إلى من يظلم الناس في أعراضهم؛ لأن غالب الناس لا يستطيعون أن يظلموا الناس في دمائهم، وأموالهم. بخلاف الظلم في الأعراض؛ فإنه لما كان مقدورا لكل أحد: تتابع فيه كثير من الناس، ووقع فيه كثير من أهل العلم والفضل. زين ذلك لهم الشيطان، حتى صاروا في عداد الظلمة: للدماء، والأموال. بل أشر منهم، مع عدم النفع لهم؛ فإن الظلمة في الدماء، قد شفوا أنفسهم: بالوقوع في هذه المعصية. وكذلك الظلمة في الأموال قد انتفعوا بما أخذوه من الأموال.
وأما الظلمة في الأعراض فليس لهم: إلا مجرد المعصية المحضة، والذنب العظيم، والظلم الخالي عن النفع، مع أنه أشد على الهمم العالية، والأنفس الكريمة: من ظلم الدم والمال. كما قال الشاعر:
وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار، بإسناد قوي: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=85سعيد بن زيد .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا، في «كتاب ذم الغيبة»: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك؛ (قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم؛ فذكر أمر [ ص: 232 ] الربا، وعظم شأنه. وقال: «إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا: أعظم عند الله -في الخطيئة- من ست وثلاثين زنية، يزنيها الرجل. وإن أربى الربا: عرض الرجل المسلم ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: (قال: « إن الربا نيف وسبعون بابا، أهونهن بابا من الربا: مثل من أتى أمه في الإسلام. ودرهم الربا: أشد من خمس وثلاثين زنية. وأشد الربا، وأربى الربا، وأخبث الربا: انتهاك عرض المسلم، وانتهاك حرمته ») .
[ ص: 234 ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد ثبت النهي القرآني عن الغيبة، وتمثيل ذلك: بأكل الميتة؛ قال الله تعالى: ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه فلم يكتف سبحانه بأكل لحم الأخ، حتى ذكر أنه ميت. وفي ذلك من التكرير والتنفير: ما يزجر كل ذي عقل.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني، بسند جيد: عن « nindex.php?page=showalam&ids=119سلمة بن الأكوع »؛ (قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه، رأينا: أن قد أتى بابا من الكبائر ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء » مرفوعا؛ ( nindex.php?page=hadith&LINKID=676182إن العبد إذا لعن شيئا: صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها. فإن لم تجد مساغا: رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد نحوه بإسناد جيد: من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ».
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار، بإسناد لا بأس به، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود » أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=940913نهى عن سب الديك .
[ ص: 239 ] وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار، بإسناد رجاله رجال الصحيح (إلا عباد بن منصور ) : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ( أن ديكا صرخ قريبا من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رجل: اللهم! العنه. فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «كلا! إنه يدعو إلى الصلاة ») .
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : (في الأوسط) : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه.
فهذه الأحاديث؛ قد اشتملت على أن السب، والغيبة، واللعن: من أشد المحرمات. وأنه حرام على فاعله، ولو كان الذي وقع اللعن عليه [ ص: 240 ] من غير بني آدم. ولو كان من أصغر الحيوانات جرما كالبرغوث، مع ما يحصل منه من الأذى والضرر.
وورد في الكتاب والسنة: من مناقبهم وفضائلهم، التي امتازوا بها ولم يشاركهم فيها غيرهم ما لا يفي به إلا مؤلف بسيط، مع ورود الأحاديث الصحيحة، في النهي عن سبهم على الخصوص.
[ ص: 241 ] بل ثبت في الصحيح: النهي عن سب الأموات، على العموم. وهم خير الأموات، كما كانوا خير الأحياء.
(أخبث الطوائف)
لا جرم؛ فإنه لم يعادهم، ويتعرض لأعراضهم المصونة: إلا أخبث الطوائف، المنتسبة إلى الإسلام، وشر من على وجه الأرض، من أهل هذه الملة، وأقل أهلها عقولا، وأحقر أهل الإسلام علوما، وأضعفهم حلوما، بل أصل دعوتهم: لكياد الدين، ومخالفة شريعة المسلمين. يعرف ذلك من يعرفه، ويجهله من يجهله.
والعجب كل العجب: من علماء الإسلام، وسلاطين هذا الدين، كيف تركوهم على هذا المنكر، البالغ في القبح إلى غايته ونهايته؟ فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة، ومخالفتها: طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم. واستزلوا أهل العقول الضعيفة، والإدراكات الركيكة: بهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الشيطانية. فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة، ورفع أحكامها عن العباد.
[ ص: 242 ] وليس في الكبائر، ولا في معاصي العباد: أشنع، ولا أخنع، ولا أبشع: من هذه الوسيلة إلى ما توسلوا بها إليه. فإنه أقبح منها؛ لأنه عناد لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولشريعته.
(أربع كبائر، وتكفير الأخ المسلم)
فكان حاصل ما هم فيه من ذلك: أربع كبائر، كل واحدة منها كفر بواح:
«الأولى»: العناد لله عز وجل.
«الثانية»: العناد لرسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
«والرابعة»: تكفير الصحابة «رضي الله عنهم» الموصوفين في كتاب الله سبحانه: بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وأن الله سبحانه يغيظ بهم الكفار. وأنه قد رضي عنهم.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في صحيحه: من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد » مرفوعا: « ما أكفر رجل رجلا، إلا باء أحدهما بها، إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره ».
[ ص: 244 ] (كل رافضي يصير كافرا)
فعرفت بهذا: أن كل رافضي خبيث على وجه الأرض: يصير كافرا، بتكفيره لصحابي واحد؛ لأن كل واحد منهم، قد كفر ذلك الصحابي، فكيف بمن كفر كل الصحابة، واستثنى أفرادا يسيرة؛ تنفيقا لما هو فيه من الضلال: على الطغام الذين لا يعقلون الحجج، ولا يفهمون البراهين، ولا يفطنون بما يضمره أعداء الإسلام من العناد لدين الله، والكياد لشريعته؟.
فمن كان من الرافضة كما ذكرنا، فقد يضاعف كفره من جهات أربع كما سلف. وهم طوائف:
منهم: الباطنية، والقرامطة، وأمثالهم من طوائف العجم، ومن قال بقولهم. فإنهم غلوا في الكفر، حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون: أنه المهدي المنتظر، وأنه جعل السرداب، وسيخرج منه في آخر الزمان.
وبلغ من تلاعبهم بالدين: أنهم يجعلون في كل مكان: نائبا عن الإمام المذكور، الموصوف بأنه إلههم، ويسمون أولئك النواب: حجابا للإمام المنتظر. ويثبتون لهم الإلهية. وهذا مصرح به في كتبهم. وقد وقفنا منها على غير كتاب. فانظر إلى هذا الأمر العظيم، وإلى أي مبلغ بلغ هؤلاء الملاحدة: من كياد الدين، والتلاعب بضعاف العقول من الداخلين في الدعوة الإسلامية، حتى أخرجوهم منها إلى أكفر الكفر، واتخاذ إله غير الله، عز وجل، وتعالى وتقدس. وخدعوهم من جهة ما يظهرونه من [ ص: 245 ] المحبة الكاذبة لأهل البيت «رضي الله عنهم». وهم أشد الأعداء لهم. قد جنوا على ربهم؛ فلم يجعلوه إلها، بل جعلوا الإله فردا من أفراد البشر، الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، زيادة على ألف سنة.
ثم جنوا على رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأخرجوه من الرسالة، وكذبوه فيما يدعيه من النبوة، وهو الذي لم يشرف أهل البيت إلا بشرفه، ولا عظموا إلا لكونهم أهل بيته.
وقد ثبت (في كتب اللغة، وشروح الحديث، وكتب التواريخ) : أن «الرافضة» إنما ثبت لهم هذا اللقب لما طلبوا من الإمام « زيد بن علي بن الحسين بن علي » رضي الله عنهم: أن يتبرأ من أبي بكر، nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر، رضي الله عنهما. فقال: «هما وزيرا جدي» فرفضوه، وفارقوه، فسموا حينئذ: « الرافضة ».
فانظر، كيف كان ثبوت هذا اللقب الخبيث لهم، بسبب خذلهم لنصرة ذلك الإمام العظيم..
وما أحسن ما رواه الإمام الهادي: « يحيى بن الحسين » إمام اليمن، في كتابه «الأحكام» مسلسلا بآبائه الكرام؛ من عنده إلى عند « الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم»: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي بن أبي طالب: « nindex.php?page=hadith&LINKID=912385إنه سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به، يقال لهم: الرافضة. فاقتلهم. قتلهم الله! إنهم مشركون ». هذا، ولم يذكر في كتابه هذا حديثا مسلسلا بآبائه غير هذا الحديث. وهو الإمام العظيم، الذي صار علما يقتدى بمذهبه في غالب الديار اليمنية.
[ ص: 246 ] فالحاصل: أن من صدق عليه هذا اللقب، أقل أحواله: أن يكون معاديا للصحابة، لاعنا لهم، مكفرا لغالبهم. هذا على تقدير: عدم تفطنه لما هو العلة الغائية للرافضة؛ من العناد لله سبحانه، ولرسوله، وللشريعة المطهرة. فتقرر لك بهذا: أن من يقدر على إنكار صنيع الرافضة، ولم يفعل: فقد رضي بأن تنتهك حرمة الإسلام وأهله، وسكت على ما هو كفر متضاعف كما سلف. وأقل أحواله: أن يكون كفرا بتكفير الأكثر من الصحابة. ومن سكت عن إنكار الكفر مع القدرة عليه فقد أهمل ما أمر الله سبحانه في كتابه: من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وترك الإنكار على ما هو كفر بواح، وأهمل ما هو أعظم أعمدة الدين، وأكبر أساطينه -وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر- فلا بكتاب الله: عمل، ولا بسنة رسوله، صلى الله عليه واله وسلم: اقتدى.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: « nindex.php?page=hadith&LINKID=908411أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر -أو أمير جائر-») وفي إسناده: « عطية بن سعد العوفي ». وقد ضعفه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، وغيره. ووثقه nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين وغيره. وحسن حديثه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي -وهذا الحديث مما حسنه- وأخرج حديثه ابن خزيمة «في صحيحه».
ثم قال: «كلا. والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، [ ص: 251 ] ولتأطرنه على الحق أطرا ». وهذا الحديث من طريق « أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود » عن أبيه. ولم يسمع منه.
وأخرجه « nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه » عن أبي عبيدة، مرسلا.
[ ص: 252 ] وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي، : nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في صحيحه: «عن nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق » رضي الله عنه: ( nindex.php?page=hadith&LINKID=664464قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يده: أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده») .
قال: فقد يكون المراد بالأول: وصفهم بما كانوا عليه، قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنهم لو تركوا وما في طباعهم: من إيثار الشهوات والراحة، وإهمال النظر: لضلوا. وهذا الثاني أظهر.
قال النووي : وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا، وسائر أهل السنة:
أن «المهتدي» هو من هداه الله، وبهدى الله اهتدى. وبإرادة الله تعالى ذلك. وأنه سبحانه وتعالى إنما أراد هداية بعض عباده، «وهم المهتدون» ولم يرد هداية الآخرين. ولو أرادها لاهتدوا؛ خلافا للمعتزلة، في قولهم الفاسد: إنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جل الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى.
وأقول: هذه العبارة الربانية، قد أفادت العموم، وأن ذلك حال كل عبد من عباد الله سبحانه. كما تفيده إضافة العباد إلى الضمير. فإن ذلك من صيغ العموم، ثم زاد ذلك شمولا وإحاطة: التأكيد بلفظ «كل» ثم الاستثناء، فإنه لا يكون إلا من عموم شامل. فالكلام متضمن للحكم على كل عبد من العباد بالضلال، إلا من هداه الله، وأن ذلك أصلهم الذي جبلوا عليه.
[ ص: 256 ] والجمع بين الحديثين ممكن، فإن أصل كونهم مولودين على الفطرة: لا بد معه من القيام بما شرعه الله لعباده، في كتبه المنزلة على لسان رسله المرسلة.
وكذلك، التثبيت للعباد -من الله عز وجل-: عند الموت، وعند سؤال الملكين، وعند الحساب، وعند المرور على الصراط. فعرفت: أنه إذا لم يهد الله عبده إلى التمسك بشرائعه، ويلاحظه بألطافه وتفضلاته: لم ينفعه كونه مولدا على الفطرة؛ لأن معنى كونه مولدا على الفطرة: أنه قابل بفطرته لما يريه الله من الحق، ويهديه إليه.
وليس مجرد هذا القبول مستلزما لكونه مهديا، غير ضال.
وأما قول النووي : وفي هذا دليل إلخ، وقد تقدم. فأقول: هذه المسألة، قد طال فيها النزاع بين الأشعرية والمعتزلة . وتمسك كل منهم بظواهر قرآنية. وكلامهم يعود إلى مسألة خلق الأفعال، وفيها من الكلام، واختلاف الأقوال: ما هو معروف.
فمن وقف عليه، وفهمه حق فهمه: وضع عن ظهره عبئا ثقيلا، وأماط عن قلبه كربا طويلا، والمهدي من هداه الله، بيده الخير كله، دقه وجله.
وأوضحت هذه المسألة في «الانتقاد الرجيح» وغيره، بما يشفي العليل، ويروي الغليل.
وفي قوله سبحانه، في هذا الحديث: (فاستهدوني أهدكم) : دليل على أنه ينبغي لكل عبد -من عباد الله سبحانه- أن يسأله «الهداية له إلى ما يرضيه منه» فمن هداه الله فاز؛ لأنها إن كانت الهداية بمعنى [ ص: 262 ] «إراءة» الطريق، كما في قوله سبحانه: وهديناه النجدين فكل عاقل لا يختار لنفسه -بعد أن يرى طريق الحق، وسبيل الرشد- إلا سلوكه، والمرور فيه، فإن اختار طريق الضلال فهو معاند، واقع في الشر، على علم به، واختيار له، وليس بعد هذا في (عمى البصيرة، وفساد العقل) : شيء، وعلى نفسها «براقش» تجني.
وإن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب: فتلك السعادة التي لا تساويها سعادة، والكرامة التي تقصر عنها كل كرامة، وهي التي سألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بقوله: «اللهم! اهدني فيمن هديت» وأمثالها.
وحيث دلت هذه الجملة الكريمة على طلب الهداية، وفيها إخبار بقبول هذا الطلب من العباد. فأقول: «اللهم! اهدنا الصراط المستقيم، [ ص: 263 ] صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». وأقول: «رب! أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما، وألحقني بالصالحين».
ولو فرض فرضا -لا حقيقة- أن عبدا من عباد الله لم يطعمه: فهو جائع. ولكنه عز وجل، قد أطعم الكل، من غير فرق بين مسلم وكافر، وذكر وأنثى، وصغير وكبير، وحر وعبد.
وكل ما توصل به العباد: من الأسباب التي يتحصل بها الرزق في الصورة: فهي من الله عز وجل؛ لأنه خالق الأسباب، وموجدها، فلولا أنه خلقها وأوجدها لم يكن لشيء من تلك الأسباب وجود.
ثم بعد إيجاد العبد: جعل له ما يباشر به تلك الأسباب؛ من صحة الجوارح، والحواس، وسلامتها من الآفة التي تبطل عملها. فلو كان غير قادر على تحريك جوارحه -كالمصاب بإقعاد أو شلل- لم يتمكن من تلك الأسباب.
وهكذا؛ لو كان مسلوب الحواس الظاهرة، أو الباطنة، أو مسلوب العقل: لم يتمكن من شيء من تلك الأسباب.
وهكذا: لو كان سليم الجوارح والحواس والعقل، ولكنه مبتلى بمرض، لا يتمكن معه من تلك الأسباب لم يحصل له شيء منها.
[ ص: 264 ] فهو سبحانه: المعطي، والرازق، والمطعم. فمن لم يطعمه الله: فهو جائع. ومن لم يستطعم الله: فهو غير طاعم.
وفي قوله: (فاستطعموني أطعمكم) : إرشاد للعباد أن يسألوا ربهم عز وجل، ويطلبوا الرزق منه.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: « nindex.php?page=hadith&LINKID=688521لا يشكر الله من لا يشكر الناس ») وقد روي هذا الحديث برفع «الله» ورفع [ ص: 268 ] «الناس» وبنصبهما، وبرفع الأول ونصب الثاني، وبالعكس.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : (في الكبير) : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ما المعطي من سعة أفضل من الآخذ إذا كان محتاجا ») .
وأخرجه أيضا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس.
[ ص: 271 ] وهذا باعتبار العطايا: من بعض العباد لبعض.
(يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته) هذه العبارة الربانية، والكلام [ ص: 272 ] الصمداني: يشمل كل فرد من أفراد العباد، لما قدمنا من أن إضافة العباد إلى ضمير الرب «سبحانه وتعالى»: يفيد العموم، ويزداد ذلك تأكيدا بقوله: «كلكم» ثم بالاستثناء المشعر بعموم المستثنى منه.
فالمعنى: كل فرد من أفرادكم عار عن اللباس، إلا من كسوته. ثم طلب «عز وجل» منهم أن يطلبوا منه أن يكسوهم، فقال «جل مجده»: (فاستكسوني) .
ثم أخبرهم بأنه: مجيب هذا الطلب الواقع منهم، فقال: (أكسكم) .
ومن أمعن النظر في هذه الفواصل المذكورة في هذا الحديث: علم ما عند الرب سبحانه من الرحمة لعباده، ومزيد اللطف بهم؛ فإنه بين لهم ما بهم من مزيد الحاجة إلى عطائه الجم، وتفضله العم، في أعظم ما تدعوهم الحاجة إليه؛ وهو الطعام الذي لا يعيشون بدونه، وأمرهم أن يطلبوه منه، وتكفل لهم بالإجابة، وأعطاهم ما يطلبونه.
ثم ذكر لهم: ما لا بد لهم منه، من ستر أبدانهم بالكسوة التي لولا وجودها لهم لانكشفت عوراتهم، وأضر بهم البرد، وأنه الكاسي لهم، والمتفضل بذلك عليهم.
ثم أمرهم -تفضلا منه لهم، ولطفا بهم- أن يطلبوا ذلك منه، ووعدهم: بالإجابة لدعوتهم، والتفضل منه بحاجتهم، وهذا بعد أن نهاهم: عن التظالم في ذات بينهم، بعد أن أخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه؛ ليقتدوا به «عز وجل» في تجنب هذه الخصلة القبيحة، التي [ ص: 273 ] تفسد معاشهم، وتبطل بها أحوالهم وأموالهم، التي لا قوام لهم إلا بها. فسبحان الله وبحمده! ما أبلغ هذا الكلام، وأعلى طبقته، وأرفع منزلته!
انظر، كيف قدم لهم: أن يجتنبوا ما يفسد به أمر معاشهم، وحال حياتهم، ثم بعد أن أخبرهم أنهم كلهم على الضلال، إلا من هداه منهم: أمرهم بأن يسألوه الهداية؛ لأنها عماد الدين، ومعيار الفلاح، وأخبرهم: بأنه مجيب هذا الطلب، ومتكفل لهم بالإجابة.
ثم ذكر لهم: ما هو أهم أمور الحياة، وأعظم مهمات المعاش.
ثم أمرهم أن يطلبوا ذلك منه؛ ليتفضل به عليهم، ويوصله إليهم.
فهل بعد هذه الرحمة البالغة، والتفضل العظيم؟ فما أحقهم بأن يديموا شكره، ويستعملوا ما تفضل به عليهم في طاعاته! وأن يلبسوا من الثياب ما أحله لهم، ورغبهم في لبسه، كما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وصححه، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي، : nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم وصححه: من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=24سمرة » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « nindex.php?page=hadith&LINKID=700180البسوا البياض؛ فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في صحيحه: من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: [ ص: 274 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=663285البسوا من ثيابكم: البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ») .
والأولى «لكل عبد من عباد الله»: أن يلبس اللباس، الذي كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يلبسه، في السفر والحضر؛ من القميص، والعمامة، والحلة (وهي الإزار والرداء) .
[ ص: 278 ] ولباسه مضبوط في «كتب السنة المطهرة». وذكرنا تفصيله في كتاب: (هداية السائل إلى أدلة المسائل) فراجعه.
(يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار) . قال النووي : الرواية المشهورة «بضم التاء».
وروي: بفتحها، وفتح الطاء. يقال: «خطأ يخطأ»: إذا فعل ما يأثم به. فهو «خاطئ». ومنه قوله تعالى: إنا كنا خاطئين .
ويقال في الإثم أيضا: «أخطأ» فهما صحيحان. انتهى.
ويؤيد هذا: ما حكاه «ابن القطاع» في كتاب الأفعال، عن nindex.php?page=showalam&ids=12074أبي عبيد، القاسم بن سلام؛ قال: يقال: و«خطأ، وأخطأ»: بمعنى.
وقال غيره: «خطأ» في الدين، و«أخطأ»: في كل شيء عامدا.
وقيل «خطأ»: تعمد الذنب. و«أخطأ»: أصاب الذنب على غير عمد.
وفي لغة أخرى: بمعنى واحد.
(وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم) .
قد تقدم: أن هذه العبارة الربانية: تفيد العموم من جهات.
لما أرشد «سبحانه» عباده إلى ما فيه نظام معاشهم، بما يحتاجون إليه: من الطعام، والثياب. وأخبرهم أنه الكاسي لهم، وأمرهم بأن يطلبوا منه أن يطعمهم، ويكسوهم، ووعدهم بالإجابة: أرشدهم «عز [ ص: 279 ] وجل» إلى ما فيه نظام دينهم، وآخرتهم؛ فأخبرهم بأنهم يخطئون بالليل والنهار؛ لما في طباعهم من الميل إلى الشهوات، وبشرهم بأنه يغفر لهم الذنوب جميعا.
ويا لها من بشارة، لا يقادر قدرها، ولا يسر بمثلها! فإنه إذا غفر لهم جميع الذنوب: نجوا من النار، ودخلوا الجنة. وأقول:
هذا هو الإفضال، هذا هو العطاء الفياض، هذا الجود، هذا هو الكرم.
(غفر الذنوب بالاستغفار)
وقد بشر «سبحانه وتعالى» في كتابه العزيز: بمثل هذه البشارة، الواردة إلينا على لسان رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم:
فانظر ما يفيده هذا الحديث: من التحضيض على الاستغفار، المتسبب عن الذنوب؛ وذلك لأن بني آدم من شأنهم: أن يكثر منهم الذنوب؛ لما جبلوا عليه من الميل إلى الشهوات. وأن من حاول منهم أن لا يقع منه ذنب ألبتة فقد حاول ما لا يكون؛ لأن «العصمة» لا تكون إلا للأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد »: نحو حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المتقدم. وفي إسناده: « يحيى بن بكير » وهو ضعيف.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي (وحسنه) nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: « nindex.php?page=hadith&LINKID=665762من استغفر الله، غفر له ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي، nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان، من حديث « بلال بن يسار بن زيد » قال: حدثني أبي، عن جدي (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: « nindex.php?page=hadith&LINKID=665871من قال: أستغفر الله، الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه: غفر له، وإن كان قد فر [ ص: 287 ] من الزحف ») قال nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال المنذري : إسناده جيد متصل، فقد ذكر nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري (في تاريخه) : أن «بلالا» سمع من أبيه «يسار» وأن «يسارا» سمع من أبيه «زيد» مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد » وقال فيه: «ثلاث مرات».
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود » بهذه الزيادة. وقال: صحيح.
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود » بإسناد، رجاله ثقات.
وإنما سمي «سيد الاستغفار»: لجمعه لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم «السيد» وهو في الأصل: للرئيس، الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في المهمات. وأيضا فيه: الإقرار لله «سبحانه» بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده، والاستعاذة مما جنى على نفسه، ورغبته [ ص: 290 ] في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو.
وما أحق هذه الأحاديث بأن إذا سمعها عبد عاص لله تعالى: أن يبادر على الفور إلى الاستغفار، من ربه الغفور الرحيم، ويستبشر بسعة رحمة الله تعالى، السابقة على غضبه «سبحانه»!
اللهم! قد بلغت ذنوبي عنان السماء، وأتيتك، يا رب! بقراب الأرض خطايا، فأوف بوعدك، الذي وعدته على لسان رسولك، الصادق المصدوق، الأمين المأمون. وائتني بقراب الأرض مغفرة، وأنت أصدق القائلين، وأرحم الراحمين. اللهم! إن نفسي أمارة بالسوء، والشيطان يوقعني كل ساعة في خطيئة من الكبائر، فضلا عن الصغائر، وإني أريد نزعي من نزغه، ولا أستطيع، حتى توفقني؛ فإن بيدك الخير، والشر ليس إليك، فاغفر لي، وتب علي، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، ولا تجعلني جاهلا ظالما، بعد أن هديتني، ومنحتني علما بالكتاب والسنة، وإن لم ترحمني وتغفر لي لأكونن من الخاسرين. ومن يغفر الذنوب إلا أنت؟ فأنت أنت، وأنا أنا، ولا يأتي من الغفور الرحيم إلا الغفران والرحمة، كما لا يجيء من العبد الظلوم الجهول إلا العصيان، والوقوع في الحمى. فاهدني سواء السبيل، واغفر لي مغفرة تامة، واعف عني؛ فإنك عفو تحب العفو، وارزقني العافية من كل ذنب، والسلامة من كل بلاء في الدنيا والآخرة، وما ذلك عليك بعزيز.
[ ص: 291 ] أقول: لما ذكر الله «سبحانه وتعالى»: ما أنعم به على عباده من أمور الدنيا والآخرة، وما أرشدهم إليه من مصالح الدين والدنيا، أبان لهم ههنا أنه لم يفعل ذلك لمصلحة ترجع إليه منهم، ولا لفائدة يوصلونها إليه؛ لأنهم أحقر، وأقل، وأذل، وأصغر من أن يستطيعوا ذلك، أو يبلغوا إليه بوجه من الوجوه.
ولهذا؛ قال: «إنكم لن تبلغوا ضري» أي: ليس لكم من القدرة ما تطيقون أن تبلغوا به ذلك؛ فإني الخالق لما فيكم من القوة والقدرة. والموجد لها فيكم، والمتفضل بها عليكم، فكيف تبلغون إلى ذلك المبلغ، الذي أنتم أعجز من أن تصلوا إلى شيء منه، وأقل من أن تبلغوا ما هو دونه؟
وصدق الله «عز وجل» فإن العبد، غاية ما يتمكن منه ويصل إليه: أن يعصي الله «تعالى وتقدس» وهو إنما يضر بذلك نفسه، ويوردها في موارد الخسران، ويقودها إلى العذاب الأليم، والبلاء المقيم، ويتعرض لانتقام الله منه، وحلول سخطه عليه، فيجمع له بين عذاب الدنيا والآخرة؛ فلا دنياه أبقى، ولا آخرته رجا، فكان كما قال الشوكاني «رحمه الله تعالى»:
إن أشقى الناس في الناس فتى بين ترك الدين والدنيا جمع صار كالمنبت في الأسفار لا ظهره أبقى ولا أرضا قطع
وعلى فرض: أنه «سبحانه» يمهله، ويستدرجه من حيث لا يعلم، ولا يحول بينه وبين عصيانه وطغيانه، فمن ورائه نار جهنم. فقد باع [ ص: 292 ] الحياة الأبدية، والنعيم المقيم بعاجل لذة زائلة، ونعمة ذاهبة، واستبدل بها عذاب الأبد، وشقاء الدهر، الذي لا ينفد ولا ينقطع.
وهكذا: من كان (من العباد) مطيعا لله «عز وجل» قائما بما أوجبه الله تعالى عليه: من الواجبات البدنية، والمالية، متصدقا بماله، متقربا إلى الله «سبحانه» بما خوله من النعم، وأعطاه من الرزق، فهو لم ينفع بذلك إلا نفسه، وربح الفوز بالنعيم الأبدي، والسلامة من العذاب الأخروي.
(بذل المال من أعظم أنواع الشكر)
ومع ذلك قد يكون ما فعله من الخير: سببا لحراسة ما تفضل الله تعالى به عليه في الدنيا عن الزوال؛ فإن أعمال الخير (لا سيما بذل المال للمحاويج) : من أعظم أنواع الشكر، الذي وعد الله تعالى عباده -إن فعلوه- بالمزيد. فقال: لئن شكرتم لأزيدنكم) . فهذا قد نفع نفسه: في دنياه وأخراه، كما ضر الأول نفسه: في عاجلته وآجلته.
وكلاهما: لم يجاوز ضر نفسه، ولا نفع نفسه، وذلك غاية قدرته، ونهاية استطاعته.
فسبحان الله العلي العظيم! ما ألطفه، وأرأفه بعباده! حتى بلغ معهم في التعليم والإرشاد: إلى هذه الغاية؛ لدفع ما لعله يقع في خواطر الصم البكم، الذين هم أشبه بالدواب، وإن كانوا في مسلاخ إنسان، وجسم بني [ ص: 293 ] آدم. كما وقع من فرعون اللعين؛ حيث قال: يا هامان ابن لي صرحا .
فسبحان الصبور: على مثل هذه الحماقات، من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل أضل سبيلا!
لما ذكر «سبحانه»: أن عباده لا يبلغون ضره، ولا يبلغون نفعه، وكانت عقولهم القاصرة محتاجة إلى مزيد تصريح، وتأكيد، وطرف من الإيضاح والمبالغة: أخبرهم بأن انتفاء ذلك الضر والنفع، الذي نفى عوده إلى حضرته المقدسة، وجنابه الأعز الأجل: ليس هو باعتبار نوع من أنواع العالم، أو باعتبار أهل عصر من العصور. بل لو اجتمع أول الثقلين وآخرهم، وكانوا على غاية من الصلاح، والانقياد، والطاعة، والتقوى. بل لو كانوا على حالة أعلى من هذه الغاية، ومنزلة أرفع من هذه المنزلة، وهي أن يكونوا كالفرد الكامل منهم، والرجل كل الرجل في جماعتهم، وهو مليء قلبه من التقوى، حتى صار أتقى الثقلين «الإنس والجن» بعد اجتماع أولهم وآخرهم.
قال الشوكاني «رحمه الله»: ولا يخفاك أن أتقى الثقلين -عند الاجتماع المفروض الشامل لأولهم وآخرهم- هم الأنبياء عليهم [ ص: 294 ] السلام» وأتقى الأنبياء: هو سيد ولد آدم -الأنبياء وغيرهم- وهو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.
فانظر، هذه المبالغة البليغة، والكلام الفائق.
وقوله: «واحد» للتأكيد، كما يقتضيه مقام المبالغة، مثل قوله سبحانه: نفخة واحدة .
وفيه: مثل ما تقدم من المبالغة البليغة، والكلام الجاري على أكمل نظام، وأتم أسلوب.
قال الشوكاني «رحمه الله»: وهذا القلب، الذي هو أفجر قلوب الثقلين، عند الاجتماع المفروض قد يكون قلب إبليس، أو مردة الجن. وقد يكون قلب بعض جبابرة الإنس كفرعون والنمروذ، ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب. انتهى.
قلت: قد أجاب أهل العلم، عن معنى قوله «عز وجل»: (الصوم لي) : بأجوبة كثيرة:
منها: ما أجاب به nindex.php?page=showalam&ids=16008«سفيان بن عيينة» فقال: معناه: إذا كان يوم القيامة، يحاسب الله «عز وجل» عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم؛ من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا «الصوم» فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة.
[ ص: 296 ] وقيل: إن الصيام لما كان هو الإمساك عن الطعام، وهذا الإمساك ليس من الأفعال التي تظهر للناس، فكان الصيام مما لا يدخله الرياء؛ لأن الرياء لا يكون إلا بأفعال تظهر للناس، مثل الصلاة، والصدقة، ونحوها.
فهذا؛ قد أفاد أنه لما ترك: طعامه، وشرابه، وشهوته من أجل «ربه عز وجل»: كان الصوم له، أي: لأجله، من غير نفع له في ذلك، بل كان النفع للصائم لما ترك طعامه وشرابه وشهوته لأجل ربه؛ لأن ذلك هو الإخلاص، الذي أمر الله تعالى به عباده، بقوله: مخلصين له الدين) . انتهى.
[ ص: 297 ] فليس بين هذا الحديث القدسي، الذي نحن بصدد شرحه: وبين الحديث القدسي، الذي في الصيام: تعارض. فافهم هذا، وكن من الشاكرين.
وبالجملة: فندب الله «عز وجل» لعباده إلى مدحه، هو مثل ندبه لهم إلى شكره وحمده. والنفع في ذلك كله للعباد، وتعالى وتقدس [ ص: 299 ] ربهم «عز وجل»: أن يكون له في ذلك نفع أو في تركه ضر.
وانظر إلى ما اقترنت به محبته «عز وجل» للمدح من عباده في هذا الحديث: من الغيرة التي من أجلها حرم الفواحش. والمحبة للعذر، التي من أجلها أنزل الكتاب، وأرسل الرسل؛ فإنه لا يقع في ذهن عاقل أن في ذلك شيئا من النفع والضر، بل كل ذلك لرعاية الرب الرحيم «الذي وسعت رحمته كل شيء» لمصالح عباده.
[ ص: 302 ] ومعلوم: أن نفع هذه التوبة، هو للعبد. كما أن ضر تركها: هو عليه. وليس للرب «تعالى وتقدس» في ذلك: نفع، ولا عليه «سبحانه» في خلافه: ضرر. فليس بين هذا الحديث وبين حديث الباب: تعارض.
والمراد (بالفرح المنسوب إلى الرب «عز وجل») : هو الرضاء بما وقع من ذلك العبد البالغ إلى أشد من الرضى، الحاصل لواجد تلك الضالة، عند وجدانها. فالتعبير عن الرضاء: بالفرح؛ لقصد تأكيد معنى الرضاء في نفس السامع، والمبالغة في تقريره.
وقد حكى النووي، في شرح صحيح مسلم عند شرحه لهذا الحديث -عن nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري - أن الفرح ينقسم على وجوه:
منها: «السرور». والسرور يقارنه: الرضاء بالمسرور به. ثم ذكر نحو ما ذكرناه. قال في الصحاح: «فرح به»: سر.
قال النووي : قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام. ومعناه: لا ينقص شيئا أصلا. كما قال في الحديث الآخر: « nindex.php?page=hadith&LINKID=656862لا يغيضها نفقة » أي [ ص: 303 ] لا ينقصها نفقة؛ لأن ما عند الله لا يدخله نقص. وإنما يدخل النقص: المحدود الفاني. وعطاء الله تعالى «من رحمته وكرمه» وهما صفتان قديمتان، لا يتطرق إليهما نقص. فضرب المثل «بالمخيط في البحر» لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة. والمقصود: التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه؛ فإن البحر: من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها. والإبرة من أصغر الموجودات، مع أنها صقيلة، لا يتعلق بها ماء. والله أعلم. انتهى.
وأقول: انظر إلى هذا الكرم الفياض، والعطاء الجم، فإن اجتماع جميع الإنس والجن: أولهم وآخرهم، في مكان واحد، ثم تفضله عز وجل بإعطاء كل سائل مسألته، على أي صفة كانت. وفي أي مطلب من المطالب اتفقت: كرم لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه.
ولعل المراد (من هذا الإخبار الرباني لعبيده الضعفاء، الذين خلقهم، وأحياهم، ورزقهم، ثم يميتهم، ثم يحييهم الحياة الأبدية، إما لنعيم مقيم، أو لعذاب أليم) : هو تأكيد استغنائه «عز وجل» عنهم، وعدم حاجته إليهم. وأن من كان هذا شأنه: يعطي جميع العالم من الجن والإنس -عند اجتماعهم المفروض أولهم وآخرهم- كل سائل مسألته، وكل مستعط عطيته: هو ذو الغناء المطلق، الذي لا يتعاظمه شيء.
[ ص: 304 ] ثم ترغيبهم في سؤاله واستعطائه، وأنه عز وجل لا تفنى خزائن ملكه، ولا ينقص بالعطاء بحار كرمه، ولا يؤثر فيها سؤال السائلين، وإن كانوا في الكثرة على هذه الصفة، التي تقصر العقول عن الإحاطة ببعض البعض، من أهل عصر من العصور. فكيف بجميع الناس، من عند آدم إلى آخر الدهر؟!
فكيف إذا انضم إليهم الجن، أولهم وآخرهم؟! فسبحانه! ما أعظم شانه! لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
لا جرم: إذا ضاقت أذهان العباد عن تصور كرمه وتفضله، فهو خالق الكل، ورب العالم، وليس عالم الإنس والجن بالنسبة إلى كل عالم من المخلوقات إلا القدر اليسير، وهو يعطي الكل، ويرزق الجميع، كما أنه خالق الكل، وموجد الجميع.
انظر إلى هذه الآية الكريمة، فإنه «سبحانه» أخبرهم بأنه يخلف لهم كل ما أنفقوه، وجاء بهذه الكلمة الشاملة؛ فإن قوله: وما أنفقتم [ ص: 305 ] يفيد -بعمومه المستفاد من الشرطية الكلية- أنه يخلف لهم كل حقير وجليل؛ من أنواع ما أنفقوه.
ثم أكد ذلك بقوله: «من شيء» فإنه يتناول ما يصدق عليه لفظ «الشيء» وهو يصدق على «الخردلة» إذ لا خلاف أنها «شيء» بل يصدق على أقل جزء من أجزائها.
ثم ذيل «هذه الجملة الشرطية» بقوله: وهو خير الرازقين فانظر إلى ما في هذه الجملة التذييلية: من تطمين خواطر المنفقين، وتشويقهم إلى ما يخلفه عليهم: «من هو خير الرازقين» فإن في ذلك ما يجذب خواطر المتقين: إلى أن يكونوا من المنفقين، المنتظرين لما وعدهم به «خير الرازقين».
فإن كونه «خير الرازقين» لا يكون ما يخلفه عليهم إلا أضعاف أضعاف ما ينفقون. كما تراه في أحوال بني آدم؛ فإن من كان منهم موصوفا بالكرم: لا يكافي إلا بالكثير، الذي يكون بالنسبة إلى ما كافى به عليه فوقه بكثير.
فكيف إذا كان ملكا من ملوك الدنيا، الذي ينزعه إلى الكرم: عرق؟!
فكيف: إذا كان ملك الملوك، وربهم، وخالقهم، ورازقهم؟!
وأخرج نحوه: nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في (صحيحه) : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة .
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي (وحسنه) nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان (وصححه) : من حديث [ ص: 310 ] « nindex.php?page=showalam&ids=9أنس » (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « nindex.php?page=hadith&LINKID=662970إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي (وصححه) nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه : من حديث « أبي كبشة الأنماري » (عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه: « nindex.php?page=hadith&LINKID=664617ما نقص مال عبد من صدقة ») .
[ ص: 311 ] وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد، nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة، nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم (وصححه) : من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر » (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول: « nindex.php?page=hadith&LINKID=697540كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضى بين الناس» قال يزيد بن حبيب: فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة، أو بصلة ) .
وفي الصحيحين وغيرهما: من حديث « nindex.php?page=showalam&ids=9أنس » (قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=692830لما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح ») .
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان : (في صحيحيهما) nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم : من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله [ ص: 314 ] وسلم: « من جمع مالا حراما، ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه ») وفي إسناده: « رواح أبو السمح » وهو ضعيف.
لما ذكر لهم «سبحانه وتعالى» أولا: ما هو رأس مصالح المعاش والمعاد، وهو تحريم الظلم، وأنه حرمه على نفسه، وجعله محرما بينهم.
ثم نهاهم عن التظالم: ليتم لهم فيما بينهم: سيرة العدل، ومسلك الخير.
ثم ذكر لهم ثانيا: أنهم على ضلال، إلا من هداه الله «عز وجل» وأخرجه من ظلمات الضلال إلى أنوار الهداية. وأمر بأن يطلبوا منه الهداية؛ ليظفروا بها بخير الآخرة، ويفوزوا: بالنعيم المقيم.
ثم ذكر لهم ثالثا: أن ما يحتاجون إليه في هذه الدار مما تدعو الضرورة إليه، ولا يتم المعاش إلا به.
وهو قوام الأنفس: من الطعام.
ووقاية الأبدان: من ضرر ما لا بد منه من البرد وستر العورات.
وهو من فضله العميم، وجوده الواسع.
[ ص: 322 ] وأمرهم: أن يطلبوا ذلك منه؛ ليتفضل به عليهم، ويعطيهم طلبتهم، ويسعفهم بقضاء حاجتهم.
ثم ذكر لهم ما جبلوا عليه من كثرة الخطايا، في غالب أوقاتهم. وندبهم إلى ما يمحو ذلك عنهم، ويزيل أثره. «وهو الاستغفار». ووعدهم: أنه سيغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
ثم ذكر لهم: أنه فعل ما فعل بهم، وتفضل بما تفضل به عليهم: من غير أن يكون له منهم فائدة، أو عليه مضرة.
وأنه إنما أعطاهم ما أعطاهم، ومنحهم ما منحهم بمجرد الفضل العظيم، والكرم الجسيم.
ثم أخبرهم: بأن عطاءه الجم، وتفضله العم: لا ينقص بكثرة العطايا، وإن بلغت أبلغ المبالغ، ووصلت إلى حد يقصر عنه الوصف، ويضيق الذهن عن تصوره، وتقصر العقول عن إدراكه.
ثم بعد هذا كله أخبرهم: أن ما وجدوه من الخير، فهو من إنعامه عليهم، لا من كسبهم، ولا من سعيهم.
ثم أمرهم: بالحمد له «سبحانه» عليه، وما وجدوه من غير الخير فهو عقوبة أعمالهم، جزاء ضلالهم، فليعودوا باللوم على أنفسهم، فهي الجالبة لذلك عليهم، وعلى نفسها «براقش» تجني.
ولولا رحمة الله «التي وسعت كل شيء»، ومغفرته للمستغفرين، وتوبته على التائبين: لكانوا أحقاء بما كان لأعمالهم جزاء وفاقا، ولكسب أيديهم مثلا طباقا. فسبحان من كتب على نفسه الرحمة، ومن سبقت رحمته غضبه.
ولا ينافي ما في هذه الآيات قوله عز وجل: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلى آخر الآية؛ لأن غاية ما في هذه الآية أن ذلك سابق في الكتاب واللوح المحفوظ، وكل أسباب الخير والشر -سواء كانت من العبد أو من غيره- هي في الكتاب، قد سبق العلم بها، وجف القلم بما هو كائن.
وهذا لا يفهمه إلا من فهم الفرق بين الحقائق الكونية والحقائق الدينية.
(قال سعيد) بن عبد العزيز، الراوي عن ربيعة بن يزيد، عن [ ص: 324 ] أبي إدريس: (كان nindex.php?page=showalam&ids=11811أبو إدريس الخولاني ) المذكور (إذا حدث بهذا الحديث: جثا على ركبتيه) .
سبب هذا -عند رواية هذا الحديث العظيم- ما اشتمل عليه من المواعظ، والزواجر، والترغيبات، والترهيبات، والبشارات، والإنذارات.
وحق لمن له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد: أن يحصل معه -عند رواية هذا الحديث أو سماعه- ما يرجف له قلبه، ويقشعر له جلده؛ خوفا من الله عز وجل، وتعظيما لشأنه العظيم، وتفخيما لأمره الكريم.
هذا؛ وأقول: هذا الحديث القدسي المروي من طريق nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر وغيره -لما اشتمل على غرر قواعد جليلة، ودرر فوائد جميلة، يرغب إليها كل ذي فهم، ويحرص عليها كل ذي علم- أحببت أن أبسط في شرحه، منبها على بعض ما تضمنه من نفائس الفرائد، ولطائف العوائد، التي هي لشوارد المسائل كقيد الأوابد.
ولم أقف على كلام عليه لأحد، من أهل العلم: إلا ما ذكره النووي، في شرحه nindex.php?page=showalam&ids=17080لمسلم، وجملة ما شرحه نحو نصف ورقة، قد نقلنا ذلك عنه، كما وقفت عليه في مطاوي فحاوي شرحنا هذا عليه، ولفظه «في صحيح مسلم» ما تقدم منجما.
وأخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه، من طريق « nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب » عن nindex.php?page=showalam&ids=16345عبد الرحمن بن غنم، وقد جمع طرقه وألفاظه العلامة الرباني « محمد بن علي الشوكاني » «رحمه الله» في مختصر لطيف، [ ص: 325 ] وشرحها شرحا بسيطا، سماه: «نثر الجوهر على حديث nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر » وقد استفدت منه في هذه المواضع.
ولم أتعرض لشرح سائر رواية nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه؛ حذرا من الإطالة.
فإن شئت أن تقف عليه فارجع إليه.
وهذا القدر الذي حررناه فيه مقنع وبلاغ لقوم يعقلون؛ فإن حرفا واحدا يفيد أولي الألباب، والجاهل المغفل لا ينفعه صحف ولا كتاب، والله أعلم بالصواب. وإليه المنتهى والمآب.